شياع.. كان أرفع من يأسنا!

TT

تضاربت الرواية حول مصدر الرصاصات القاتلة التي استقرت في بدن الكاتب والباحث والمثقف كامل شياع ببغداد، أكاتم صوت أخرس أم رشاش ناطق لا يخشى ولا يحذر شيئاً! مع أن الحدث ليس بالبعيد، ابن ساعته. ويبدو لأصحاب الروايات أغراضهم أيضاً، فتحوَّل القتل إلى كاتم صوت يعني أن الحكومة قوية والأمن مستتب، وأن الشرطة ومن طرزوا على أكتافهم السيوف والتيجان، بدورات اليوم أو اليومين، هناك من يخافهم ويهابهم، وبالتالي لا داعي لصحوات عشائر أو من يُعين!

اغتيل كامل شياع وكان نفسه يتوقع الحدث! لكنه استمر متعايشاً مع خوفه وقلقه، متحايلاً على التهديدات التي ترده، وهو الإنسان المسالم إلى حد الضعف، بأمل أن تعاد للثقافة العراقية حظوتها بين ثقافات الأمم، محاولاً استثمار هوامش الديمقراطية لترميم هامش ثقافي ما. كانت به وبأمثاله تعرف أنها وزارة ثقافة، ويطمئن المثقفون الى التعامل معها، ولا نعني ممن تكلست ذواتهم على الكراهية.

أتى العهد الجديد وأخذت الأنظار تصبو إلى محو آثار خراب السابقين، وما حل في جسد الثقافة العراقية، وإذا ينز على مقعد وزارتها وإداراتها من لا ناقة له فيها ولا جمل، واُحتقرت حقيبتها بين الكتل النيابية، في نظام المحاصصة الطائفية السيئ والمهين، حتى سمعنا أحد النواب يقولها بصلافة الجهل: إنها وزارة تافهة! وبمستوى ذلك الجهل تحولت إدارتها إلى مزايدات بعقائد الناس الدينية الشعبية، ليصبح اللاطائفي شياع خطراً وهدفاً مرصوداً على دواخل الوزارة نفسها.

من يعرف كامل شياع، شخصاً وثقافة، لا يستغرب قدرته على امتصاص النزقين والمتوهمين بمجد ثقافي، بل تجده يتعامل بكبد جمل، وهو الرقيق الكاتم لحزنه، مع الحوادث التي مرت عليه، وهو يعرف أن رفضه لاقحام المؤسسة الثقافية بشأن ليس من اختصاصها ولا من طباعها قد يؤدي به إلى الاغتيال، وبالفعل حصل ذلك، في أجواء لا يعرف الغادر إلا المغدور، ولا القاتل سوى المقتول. هناك سبب لا غيره جعل مثل كامل شياع يُضيف إلى صبره وهدوئه الموصوف به، وهو يتعامل مع خصماء الثقافة، أن للعراق حقاً، مع أن الرجل ليس من أصحاب المغامرات، ولا نفسه رخيصة عليه إلى هذا الحد، ولا هو من أهل الحمايات!

كان كاتباً وباحثاً مرموقاً، لا تنتهي من مقالته إلا وتشعر بقيمتها، وبإضافتها شيئاً إليك. ومتواضعاً تواضع التراب للصديق والعدو. التقيته يوماً يرافق وزير الثقافة، من غير المثقفين، وما أن صعد الوزير يُلقي كلمته حتى تبينَّ، من هيئة وقوفه أمام المنبر، ومقدمة خطبته، والدفتر الأسود الذي فتحه، أن الرجل خطيب مسجد لا وزير ثقافة! عندها التفت لكامل شياع، وهو يخفي عينيه وراء نظارتيه خجلاً مما فيه الثقافة العراقية من بؤس الحال. قلت له: ما هذا يا كامل! قال: «جاءت هذه الخطبة بعد التلطيف والتحسين! وهناك في الوزارة كائنات شتى، ما هو أفظع، نتعامل بالحد الأدنى، نكتفي بطباعة كتاب ثقافي أو تكريم مثقف أصيل أو إقامة مهرجان بعنوان ثقافي، وإذا أردنا ذلك علينا الصبر على سماع مثل هذه الخطبة».

ليس كامل شياع من طلاب المال، والعودة إلى الأوطان الثانية، كعودة الآخرين، لشراء عقارات، وبناء شركات، ولا من ركاب الدرجات الأولى عند الإيفاد، ولا من أصحاب المظاهر، ولا من المسوغين للذات الدنيئة بمسائل الفقه والشرع ومن مكاتب الوزارة! وعندما اعترض على سخاء الإيفاد لمسؤولين في الوزارة، وهو معهم، بما لا يفسر إلا بالفساد! أجابه أحد المتلفعين بثوب الدين! يبدو أنك أصبحت إسلامياً لا يسارياً! ومعلوم أن الأمانة ليست من اختصاص العقائد بل النفوس! وها هي الإدارة والمال بيد إسلاميين فأين الأمانة؟! حتى يُلغى عن كامل خُلق شخصي رافقه حتى لحظة الغدر به!

حقاً جهدت عند سماع نبأ اغتيال كامل، أن أصبر النفس عنه بالبحث في الذاكرة، وأنا أعرفه منذ عشرين عاماً كاتباً وصديقاً، لعلَّي أجد خطيئة أو ذنباً على مستوى الثقافة أو على المستوى الشخصي أخفف فيه من هول ما حل في النفس من مشاعر الحزن، لكني لم أجدهما، لا تعصباً له، بل هي الحقيقة، التي يُشاطرني فيها بقية معارفه. لهذا كان وجوده، وهي مغامرته الكبرى، بارقة أمل لدى جمهور المثقفين في أن تستعيد الثقافة العراقية شيئاً من غابرها، وألا يحصل الانقطاع بينها وبين وزارتها. كان يتحدث بمستوى مغامرته عن انكساراته وآماله، وكم قيل له: أنت تحرث في ماء، وتنفخ في رماد! إلا أنه كان أرفع من يأسنا!