ولم أكن أعرف كيف يكون الصبر جميلا!

TT

كان يدرس لنا الفلسفة الإسلامية: الشيخ مصطفى عبد الرازق. وهو شيخ معمم ولكنه في غاية الشياكة والأناقة. فهو باشا و«ابن ناس»، كما نقول في مصر. أي أنه من عائلة عريقة ولم يكن يتكلف الذوق والأدب وفن الإصغاء واحترام الناس.. هو يحترم الناس والناس يحترمونه، وكان شديد الحفاوة بتلامذته يستمع إليهم في صبر. وكان لا يضيق بهم مهما كان عددهم ومهما كانت قضاياهم. وكان هذا الإصغاء يشجعهم على الالتفاف حوله والتمادي في الحديث إليه.

وكنا نحذر أحد الزملاء من أن يذهب إلى شيخنا مصطفى عبد الرازق، فهو ثرثار، وإذا تحدث إلى أحد فإنه قادر على أن يهزم قدرته على الصبر وعلى الإصغاء، لأنه يبدأ في موضوع ويدخل في موضوع ويتكلم طويلا ويسأل كثيرا ويدوخ من يغامر بالاستماع إليه.. وحذرنا الشيخ مصطفى باشا من هذا الزميل، وكان الرد علينا بابتسامته الرقيقة الجميلة وكان معناها أنه لن يضيق به إن شاء الله. ووقع المحذور ووقفنا من بعيد نرى ونتأمل ونتساءل، فزميلنا هو الذي يتكلم والشيخ قد أحنى رأسه وأعطاه أذنيه. وزميلنا يعيد ويزيد ويقول ويكيل. والشيخ لم تتغير ملامح وجهه فلا ظهر عليه الملل ولا الضيق ولا الرغبة في الانصراف، وإنما رأيناه قد اقترب وسحبه إلى جانب من الغرفة، ثم أشار إلى أن يحضروا لهما مقعدين وجلسا. وتقاربا ولم يتوقف زميلنا عن الكلام والشيخ لا يزال يستمع سعيداً بذلك.

وبعد لحظات صافحه وعانقه. وقد لاحظنا أن أستاذنا لم يفتح فمه بكلمة. ونريد أن نعرف ماذا قال. وكيف أفلح زميلنا في أن يستولي تماماً على شيخنا كل هذا الوقت الطويل وقد عرفنا معنى الصبر. وكيف يكون جميلا باسما مشرقا راضيا كما شاهدناه على وجه الشيخ مصطفى عبد الرازق..

وسألنا زميلنا: ماذا حدث؟ وكيف طال الكلام وطال الصبر، وماذا كنت تقول. وكيف أقنعته بالإصغاء الشديد إليك..

وكانت المفاجأة أنه كتب دراسة عن فكر وفلسفة الشيخ مصطفى عبد الرازق، وأصر الشيخ على أن يستمع إلى ملخص هذه الدراسة التي أعجبته وأسعدته وذهب إلى أبعد من ذلك، إلى أنه وعد بنشر هذه الدراسة التي أعجبته لأنه اتخذ نظريات جديدة في النظر إلى فلسفة الشيخ.

صحيح: إن الإنسان لا يقاطع من يقيم حفلة تكريم له. وهذا ما فعله صاحب الصبر الجميل مصطفى عبد الرازق!