كوسوفا والوجود العربي والاستقلال

TT

تلقّيت دعوات من قبل للذهاب إلى البوسنة وإلى كوسوفا. لكنْ حالت دون الذهاب أسبابٌ بعضُها عامٌّ وبعضها خاص. وجاءت الدعوة الأخيرة إلى كوسوفا من إحدى جمعيات المجتمع المدني، وغلب عليّ التردد، إلى أنْ كانت أحداث جورجيا، فذهبْتُ مع زملاء عرب إلى ندوة عن كوسوفا (والألبان) والعلاقات مع العرب. والمعروف أنّ دول الجامعة العربية، ودول منظمة المؤتمر الإسلامي، تريَّثت في الاعتراف بكوسوفا الم ستقلة؛ في حين سارعت لذلك الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي. وهناك اليومَ مكتبٌ تمثيليٌّ لماليزيا، وعدة منظمات إغاثية عربية، أمّا الحضور السياسي فلتركيا، وفي ألبانيا، كما في كوسوفا.

اعتبر الغرب الأوروبي والأميركي أنه حسم الحرب الباردةَ لصالحه. ولذلك فقد نظر إلى كلّ التطورات بالبلقان وشرق أوروبا، وآسيا الوسطى والقوقاز، بعد العام 1989 على أنها إعادةُ نظرٍ في نتائج الحرب العالمية الثانية. وفي هذا السياق جرى وبالتدريج، وفي سنوات ضعف روسيا وفوضاها السياسية، وانكماشها الاستراتيجي، تفكيك معسكر حلف وارسو، وتفكيك يوغوسلافيا. فبرزت نتيجة ذلك عشرات الدول الوسطى والصغيرة، وفيما يهمنا نحن عرباً ومسلمين، ظهر «الإسلام الأوروبي» ذو المعنى السياسي والاستراتيجي، وليس ذاك الذي كنّا نُعْنى به، ونتحدث عنه في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. كنّا نعني بالإسلام الأوروبي، مسلمي الجاليات بأوروبا الغربية، الذين استيقظت لديهم خصوصيات الهوية، وسعوا للاندماج (أو التمايُز؟) بالشروط الجديدة، التي أتاحها التعدد الثقافي والسياسي الجديد بالقارة القديمة. أمّا الإسلام الأوروبي الذي أظهرتْهُ أو أتاحتْه نهاياتُ الحرب الباردة؛ فالمعنيُّ به على الخصوص، أولئك المسلمون القُدامى و«الأُصلاء» بالبلقان الأوروبي، وبخاصةٍ في البوسنة والهرسك، وكوسوفا. وكلتا المقاطعتين كانتا جزءًا مما ورثتْه صربيا فيوغوسلافيا من انهيار الامبراطوريتين النمساوية والعثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأُولى. وكما هو معروف انّ المقاطعتين خاضتا «حرب تحرير» ضد صربيا في التسعينات من القرن الماضي، واشتهرتا كثيراً، بسبب العنف والمذابح التي ارتكبها الصرب فيهما للحيلولة دون انفصالهما أو استقلالهما.

ويختلفُ الوضْعُ في كوسوفا عنه في البوسنة والهرسك. ففي البوسنة هناك تعددٌ إثني وديني، ولا يشكّل المسلمون (ذوو الأصول الصربية في الغالب) غير أكثريةٍ نسبية (حوالي الـ40%)، بينما البقية هم من الكروات (الكاثوليك)، والصرب (الأرثوذكسي). وفي النهاية، وبمساعدة الغرب كلّه، قامت دولةٌ اتحاديةٌ في البوسنة والهرسك، ما تزال تخوضُ عمليةً سياسيةً معقَّدةً باتّجاه الاستقرار والاستتباب. ويساعد على ذلك تسليم صربيا أخيراً باستقلال البوسنة والهرسك، وتخلّي كرواتيا عن ضمّ الهرسك إليها. أمّا كوسوفا فإنّ 90% من سكّانها البالغ عددهم5.2 مليون نسمة، هم من الألبان المسلمين. وكان الرئيس الراحل جوزيب بروس تيتو قد جعلها منطقة حكمٍ ذاتي منذ العام 1974. بيد أنّ الدولة الصربية، التي اعتبرت نفسَها وارثةً للاتحاد اليوغوسلافي؛ ومنذ العام 1986، أصرَّت وما تزال، على اعتبار كوسوفا جزءًا أصيلاً فيها، لدواعٍ تاريخية ورمزية. ففيها تقوم الكنائس الأرثوذكسية الأقدم، وهي منطقة التخوم بين القوميتين المتصارعتين الصربية والألبانية، ومنها دخل العثمانيون في ثمانينات القرن الرابع عشر الميلادي، بعد معركة كوسوفو عام 1386 التي انتصر فيه العثمانيون على المملكة الصربية ـ للاستيلاء على بقية أجزاء صربيا والبلقان.

ظهر الاضطراب في كوسوفا ومن حولها بين العامين 1992و1994. وقام الرئيس الصربي السباق ميلوسيفيتش بإلغاء وضْعها باعتبارها منطقة حكم ذاتي، وأقدم الجيش الصربي على احتلالها وإدارتها في حكمٍ عسكريٍ مباشر. وفي العام 1999 ومع اشتداد حركة المقاومة، بدأ الصربيون في عملياتٍ مسلَّحةٍ تهدف إلى إبادة المقاومين، وتهجير السكان المدنيين، الذين مضى منهم حوالي الـ400 ألف إلى الأقطار الأوروبية وألبانيا ومقدونيا، بينما تهجَّر حوالي النصف مليون داخل بلادهم. وفي النهاية، وبعد تعاظم المذابح والتهجير، تدخل حلف الأطلسي بقواته الجوية في غاراتٍ على الجيش الصربي في كوسوفا، وفي صربيا نفسِها، مما اضطرّ الصربيين إلى الانسحاب. وقامت إدارةٌ أوروبيةٌ ودوليةٌ في الإقليم أشرفت على إعادة المهجَّرين، وإعمار ما تخرَّب، وبناء قوات للشرطة، وإجراء انتخابات نيابية وبلدية، والسير في مفاوضات معقَّدة بين الكوسوفيين ودولة صربيا، وممثلّي الأقلية الصربية بكوسوفا. واستغرق الأمر ست سنوات دونما توصلٍ إلى نتائج نهائية، رغم عدة اتفاقياتٍ تمهيديةٍ موقَّعة. ولذلك، وفي الشهر الثاني من هذا العام، وبموافقة الدوليين (من دون روسيا)، أعلن الكوسوفيون الاستقلال، وقيام دولة ديموقراطية تعترف بحقوق الأقليات (الصرب والأتراك). وما تزال قواتُ الأطلسي موجودةً على الحدود مع صربيا.

في الحرب والاضطراب، وفي بدايات العملية الدولية السلمية بعد الاضطراب، وقف العربُ إلى جانب كوسوفو، كما وقفوا من قبل إلى جانب مسلمي البوسنة. واشتهرت عمليات الإغاثة الكبيرة التي قام به السعوديون والكويتيون والإماراتيون، والمشاركة في عمليات إعادة الإعمار. كما ساعد المصريون والأردنيون في بناء قوات الشرطة والأمن. وأقبلت سائر الدول العربية والإسلامية على إرسال التهاني بإعلان الاستقلال. لكنْ في حين اعترفت دول الاتحاد الأوروبي، والدول الدائرة في فلك الأطلسي والولايات المتحدة، بالدولة الجديدة، وأرسلت دبلوماسييها ومنظماتها المدنية للعناية بالدولة الجديدة، بقيت الدول العربية والإسلامية في حدود التهاني والترحيب (والمملكة العربية السعودية أضافت للأعمال الإغاثية تقديم مساعدة مالية كبيرة أخيراً)، من دون الاعتراف الدبلوماسي. ويذكر الكوسوفيون بشيء من المرارة، أنّ إندونيسيا لم تُصوِّتْ في مجلس الأمن لصالح الاستقلال!

لماذا حدثَ ذلك؟ أو ما هو سبب التردد؟ ما ذكر أحدٌ عللاً صريحةً لذلك. لكنّ المسؤولين الكوسوفيين(قابلنا رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، ووزير الخارجية) يخمّنون أنّ بعضَ العرب والمسلمين ما أرادوا إزعاج روسيا وصربيا. والبعض الآخَر يخشى أن يتحول الاستقلال الإثني إلى نموذج للأقليات في ديار العروبة والإسلام.

والواقعُ أنه لا يمكنُ تَجَاهُلُ السياق العالمي الذي سبق ذكْرُه. وهو سياقٌ حسم فيه الغرب الأمر لصالحه أو اعتقد ذلك. وقد سلّمتْ روسيا بما لم تستطع رَفْضَه أو الحيلولةَ دونه، ومن ذلك انهيار إطار حلف وارسو، وظهور دول كانت أجزاء من الاتحاد السوفياتي في شرق أوروبا وشواطئ البلطيق والبحر الأسود والقوقاز وآسيا الوسطى. لكنها حتّى في زمن تهالُكِها ما سلَّمتْ مَثَلاً باستقلال الشيشان. وما فعلتْهُ هناك من فظائع، لا يقلُّ عمّا فعلهُ الصربُ في البوسنة وكوسوفا. وقد تحركت الآن لمراجعة نتائج أُخرى اعتبرت أنّ فيها خطراً استراتيجياً عليها. وقد بدأت في الخاصرة الضعيفة، في جورجيا. لكنّ توجُّسها الأشدّ من سيرورة أوكرانيا دولة البحر الأسود الأُولى، وفي شواطئها الأُسطول الروسي الكبير؛ وبعض القوة النووية؛ بينما تريد السلطة الجديدة في أوكرانيا دخول الاتحاد الأوروبي وحتّى الحلف الأطلسي! وقد اعتبرت الدولُ الغربيةُ الثورانَ الإثنيَّ في روسيا والبلقان لصالحها، لكنّ العُملةَ ذات وجهين. فها هي روسيا تستفيد من ثَوَران الأوسيتيين والانجاز لتضرب استقرارَ جورجيا، التي ما كانت لديها حكمةُ فنلندا، وأرادت وبسرعة الذهابَ باتجاه الاتحاد الأوروبي وباتجاه حلف الأطلسي. لكنْ من جهةٍ ثانيةٍ لن تستطيع روسيا مهما بلغ من قوتها، العودة إلى الوضع الاستراتيجي السابق، ولا إلى أَوضاع الحرب الباردة. وسيكون على أوروبا الغربية (ألمانيا وفرنسا على الخصوص) أن تتدخَّلَ بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، لتهدئة الصراع الذي يجري في قلْبِها هي. ففي أوروبا الأطلسي أقلياتٌ تريد أيضاً الاستقلال. وما مَثَلُ إيرلندا ببعيد، وهو النموذجُ الذي تسيرُ باتّجاهه منذ سنوات اسكتلندا أيضاً! لكنْ، ومع الاعتبار بالظروف والسياقات، ليس لدى العرب والمسلمين ما يخافونه من وراء استقلال كوسوفا، بل على العكس من ذلك هناك ميزات. فحقُّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني هو أمرٌ مفروغٌ منه، وعلى الغرب الذي دعم استقلال البوسنة وكوسوفا بالقوة، أن يعتبر هو نفسُه بما حدث، ليعمل مع العرب أخيراً من أجل الدولة الفلسطينية المستقلّة. ولا أدري لماذا لا تخشى إسرائيل من مَثَلي البوسنة وكوسوفا، فتدعم استقلالَهُما، ونخشى نحن من إسلامٍ أوروبيٍ بشوشٍ وصديق، ومدعومٍ من الغرب كُلِّه، وهو يتطلَّعُ إلينا، فننظر إليه باعتباره في الحدّ الأقصى حالةً إنسانية، وليس حالةً سياسيةً وحضاريةً نهضوية؟!

قال لي مفتي كوسوفا الحالي إنه متخرجٌ من جامعة الأزهر. وقال لي مفتي كوسوفا السابق إنه متخرجٌ من جامعة المدينة المنوَّرة. وهناك إقبالٌ كبيرٌ على تعلُّم اللغة العربية. وعلى عكس ما حدث في العقود الثلاثة الماضية في العالم العربي، هناك تناغُمٌ كبيرٌ لدى المثقفين ورجالات الدولة بين القومية والإسلام، وبين الدولة والدين، دونما مكاسرةً أو صراع. إنها فرصةٌ لا ينبغي تفويتُها، وإنه لأُفُقٌ على مثقفينا التجرؤُ على النظر فيه وإليه، أمّا سياسيُّونا فالذي أخْشاهُ، أنهم ما يزالون يحنُّون إلى زمن الحرب الباردة، حيث كان بوسعهم تعليق كلّ الأُمور على مشجب هذا القُطْب أو ذاك:

وإذا «الوصايةُ» راقبتْكَ عيونُها

نَمْ فالمخاوفُ كُلُّهنَّ أمانُ