أوباما ليس الفارس الموعود

TT

تحقق ما كان متوقعا، وفاز باراك أوباما بأصوات القاعدة العريضة من الحزب الديمقراطي، وأعلنت منافسته العنيدة هيلاري كلينتون دعمه.

وبحسب موازين الحملة الرئاسية راهنا يبدو أوباما على عتبة دخول البيت الأبيض بصفته الرئيس الأسود الأول للولايات المتحدة منذ قيامها.

يذكر صعود أوباما بمسار الرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي، على الرغم من اختلاف السياقين الأمريكي والفرنسي وتباين خلفية الرجلين.

كلاهما ابن المهاجر الناجح الذي نجح في اختراق حجب السياسة المحلية التي يتحكم فيها أرباب العائلات الحزبية العريقة واللوبيات المالية الشرسة.

كلاهما دخل للمعترك من باب النجومية الإعلامية، واستطاع ان يسحر الناخبين بقصته المثيرة في مجتمعات شديدة الرتابة تحن للخارق وللبطولة: ساركوزي بحياته الزوجية المضطربة وعلاقته بنجوم الأزياء والسينما، وأوباما بأصوله الإفريقية وجذوره الإسلامية الغامضة التي يتنكر لها بإبراز انتماءاته الإنجيلية العلنية.

 الخارق في قصة ساركوزي انه استطاع التحكم في اليمين الفرنسي، الذي وحده حول شخصه، متغلبا على رموزه الثلاثة الكبرى: الرئيس شيراك وريث التقليد الديغولي المخضرم، والرئيس الأسبق جسكار دستان مؤسس كتلة الوسط، وزعيم الجبهة القومية جان ماري لبون الذي يمثل الاتجاه المحافظ المتشدد.

وقد نجح أوباما في التحدي نفسه، فهزم الوريثة  الشرعية للخط الديمقراطي التقليدي وزوجة آخر رئيس من الحزب الديمقراطي (هيلاري كلينتون). وعلى الرغم من كل ما كتب عن صلاته المشبوهة ببعض اللوبيات المالية والدينية، فان سر نجاح أوباما يكمن في ذكائه الوقاد وثقافته العالية وبراعته في الخطابة وقدرته الفائقة على الإقناع وخروجه من سجن الانتماء الخصوصي (انحداره من أب إفريقي أسود).

لا يتمتع ساركوزي بثقافة أوباما وخطابته، بيد انه يشاركه القدرة المثيرة على الحركة وعلى استقطاب الأضواء وجلب الاهتمام، ويماثله في جرأة تحريك الملفات والبروز في شكل رجل القطيعة والتغيير.

ومع ذلك يخطئ من يتوهم أن الرجلين سيحدثان تحولا جذريا في مجتمعيهما على عكس الصورة السائدة التي يغذيانها في المخيال الجماعي. ومن المضحك اليوم ما نقرأه في الصحافة العربية عن ثورية أوباما ويساريته، بحيث يبدو ان الولايات المتحدة مقبلة على تغيير زلزالي إذا حكمها الشاب الأسود الساحر.

وبالرجوع إلى كتابات أوباما وتصريحاته الأخيرة يتبين ان الرجل لا يختلف في شيء عن الخط التقليدي للاتجاه الديمقراطي الذي ينظر اليه خطأ بأنه حزب يساري بحسب النموذج الأوروبي (أي التشكيلات الاشتراكية الرافعة لمطالب الطبقات الاجتماعية المسحوقة والمتبنية لخطاب التغيير الراديكالي).

وكان عالم الاجتماع الألماني فيرنر سومبارت قد بين في كتاب كلاسيكي صادر عام 1906 بعنوان «لماذا لا توجد الاشتراكية في الولايات المتحدة؟» ان خصوصية المجتمع الأمريكي تكمن في ان مبدأ الاقتراع العام قد اعتمد في الولايات المتحدة منذ مطلع القرن التاسع عشر (باستثناء السود الذين منح لهم حق التصويت بعد نهاية الحرب الأهلية)، في الوقت الذي كان هذا الحق محصورا في فرنسا في طبقة النبلاء وكبار ملاك الأرض. فلم تكن الطبقة العاملة مقصية في أمريكا من الحقل السياسي ولذا لم تستقطبها أطروحات اليسار الفوضوي والماركسي التي اكتسحت الفئات المضطهدة في المجتمعات الصناعية الأوروبية. ومن هنا ندرك كيف مرونة النموذج الاقتصادي الأمريكي بقدراته الإدماجية السريعة، التي خففت من حدة الصراع الطبقي، فلم يكن هذا الصراع اذن محورا محددا للحياة السياسية.

فخط التصدع الذي يسم الحقل السياسي الأمريكي لا يتصل بالقيم الاجتماعية ومقومات النموذج التنموي، بل تتلخص في التعارض بين القيم المحافظة التي يدافع عنها الجمهوريون وقيم التجدد والانفتاح الاجتماعي التي يتشبث بها الديمقراطيون ضمن ثوابت كبرى من بينها قيم الديانة المدنية ذات المسحة اللاهوتية البارزة التي درسها بدقة دتكوفيل في كتابه المشهور حول الديمقراطية الامريكية.

فالذين يراهنون على البطل الثوري في واشنطن الذي سيقوض النظام الرأسمالي وينصف المظلومين ويحرر فلسطين ويسحب قوات الاحتلال من بغداد هم ضحايا وهم كبير. فالشاب اللامع الذي سحر قلوب الأمريكيين بقصته الجميلة وحيويته الفائقة ليس سوى دليل إضافي على قدرة النموذج الأمريكي على إعادة إنتاج نفسه، من خلال الأساطير الساحرة التي تضفي مسحة براقة على زمن سياسي رتيب لا يتغير.