(الولاء الخائن).. والمنهج العملي لتفادي كوارثه

TT

هما مقالان مستقلان من حيث البناء أو (الترتيب الفني)، ولكنهما متضامنان متكاملان من حيث القضية والموضوع. فمقال الأسبوع الماضي كان عن العبرة في مصير مشرف ونظرائه الذين تخلى عنهم حلفاؤهم، والذين باشروا هم من الأخطاء ما سهّل مهمة التخلي عنهم.. أما هذا المقال الذي معنا الآن فيتركز على (الولاء الخائن)، وأهل الفطنة الوهّاجة يدركون على عجل: العلاقة المنهجية والموضوعية بين المقالين، يدركون أن في مقدمة الأسباب والعوامل التي أودت بأولئك الرؤساء ـ ونظرائهم في التاريخ ـ: بطانة السوء أو مستشارو الغش والتضليل أو مستشارو الغباء والجهل والجبن والتحجر والإصابة بعمى الأحداث والتطور والأزمان الى آخر العاهات التي تحقن الرأي والمشورة بما يجعلها سما قاتلا يميت من قدمت إليه من الزعماء والرؤساء: ميتة عاجلة أو ميتة بطيئة.

ولا داعي ـ البتة ـ للتخفيف ـ مثقال ذرة ـ من مسؤوليات الرؤساء والزعماء الذين جرى التخلي عنهم، أو الذين سيجري التخلي عنهم في المستقبل من قبل قوى دولية معروفة. فمن يتبوأ مكانة الرئاسة يجب أن يتحمل مسؤولياتها كاملة، والذي لا يقدر على تحمل هذه المسؤوليات الجسام، فليس أهلا لأن يكون رئيسا أو زعيما بادئ ذي بدء. فالحكم ليس منتدى لعب ولهو يمارس اللاعبون اللاهون فيه: هواية اللعب واللهو. بل الحكم أمانة ثقيلة، وعدل تنوء بحمل مسؤوليته الجبال الراسيات:«إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل».. لا جرم أن الأمانة والعدل أبعد ما يكونان عن الهزل واللعب واللهو.. و(المضمون الإنساني) موفور الحضور والضياء ها هنا. فالحكم مرتبط ـ في الجوهر ـ بحياة الناس الطيبة وكرامتهم ومصالحهم الحيوية.. وهذا ميدان عظيم وشريف، لا يحتمل لعبا ولا لهوا ولا مغامرة ولا مقامرة.. مع تقرير هذه الحقيقة (القانونية السياسية الاجتماعية الأخلاقية): حقيقة أن حمل المسؤولية الكاملة هو المؤهل الأول لكل حاكم: ليس ينبغي أن تعمى العين عن رؤية تبعات ومسؤوليات (آخرين) لهم دورهم الفاعل والكبير في التسبب في سقوط زعماء ورؤساء سقطوا أو خابوا خيبة كبرى ـ تماثل السقوط ـ في حكمهم وإدارتهم.. والصفة الأساسية لهذا النوع من الآدميين (من البطانة والمستشارين ومن في حكمهم)..... الصفة الأساسية لهم هي (الولاء الخائن).. والمعنى المقصود بهذا التعبير هو: ان هناك من يوالي: باللفظ والقرب وظاهر الأمر والسلوك، في هذه الصورة أو تلك، بيد أنه في حقيقة الأمر، وبالمقياس الدقيق (يخون) الولاء.. ولندع الآن شأن الذين (يخونون) ـ بإخلاص قد يكونون ـ، فهم في نياتهم مخلصين ولكن جهلهم وغباوتهم يحملهم على تقديم نصائح ومشورات ترقى الى مرتبة الخيانة من حيث النتيجة والأثر.. ومن يستقرئ تاريخ المسلمين ـ مثلا ـ يعلم: أن الكوارث الماحقة: حلت بالمسلمين من فريقين ـ في الغالب ـ: الفريق (الذكي الخبيث).. والفريق (الغبي المخلص)!. وتكاد نتائج الكوارث التي تسبب فيها الفريقان تكون متساوية!!.. لندع دراسة هذه الظاهرة العجيبة المدمرة الآن، لنناقش مسألة (الولاء الخائن) المتمثل في الصور الآتية:

1 ـ صورة تقديم (المعلومة الخاطئة) الى الرئيس أو الحاكم.. (إن القرار الذي يتخذه الحاكم ـ أيا كان وصفه ـ لا يكون سليما إلا إذا انبنى على (معلومة صحيحة): تناهت في الصحة والتوثيق، سواء كان القرار سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو أمنيا. فإذا كانت المعلومة خاطئة أو جاهلة: عجن منها قرار خائب ماحق.. ولقد خلت المثلات: كان وراء مقتلة أمريكا في فيتنام قرار جاهل أحمق (بشهادة مهندس حرب فيتنام روبرت ماكنمارا).. وكان وراء غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان قرار غبي.. وكان وراء هزيمة يونيو 1967 قرار جاهل سفيه نزق.. وكان وراء احتلال الكويت عام 1990 قرار بليد مستهتر.. ومما لا ريب فيه أن هذه القرارات المدمرة ـ لمن اتخذها في المقام الأول ـ كانت (تتغذى بالمعلومة الخاطئة).. وللذين يحبون أو يريدون تصور الحقائق في ذروتها (المرعبة) التي تعينهم على فتح أدمغتهم لاستنباط العبرة. لهؤلاء نسوق الوقائع التالية: لقد سقط شاه إيران، وتقوض نظامه بسبب (معلومات خاطئة) قدمت للرجل من بطانته ومستشاريه ـ عن الوضع في أيامه الأخيرة ـ .. ولندع آخر سفير أمريكي في إيران ـ قبيل رحيل الشاه ـ يقص بعض هذه الوقائع في كتابه (أمريكا وإيران).. يقول السفير وليام ساليفان: «الصورة كانت قاتمة، فالاضطرابات ومظاهر التذمر امتدت من طهران الى المدن الكبرى مثل تبريز وأصفهان وشيراز. وقد أشار أحد التقارير الى تذمر في صفوف القوات الجوية لأسباب خاصة بهذا القطاع.. ثم كانت المسيرة المرعبة المعادية للشاه والتي كان قوامها مئة ألف إيراني».. في هذه الظروف الخطيرة كيف كان الشاه يرى الوضع حوله؟.. يقول ساليفان نفسه: «تجاه ذلك كله اكتفى الشاه بتوجيه تهمة التحريض على نظامه الى جهات أجنبية أو الى الشيوعية أو الى رجال الدين المتعصبين».. على أي شيء بنى الشاه تصوره الساذج والمهلك؟.. بناه على المعلومة الخاطئة المطعمة بمشورة خاطئة أيضا. كانت بطانته ومستشاروه يقولان له: ان الوضع على ما يرام!!، وان ما يجري مجرد أحداث شغب محدودة من قبل الرعاع والحاقدين والمأجورين وان هذه الأحداث تحت السيطرة «!!!!!».. ومن المشورات والمعلومات المهلكة التي قدمتها له بطانته: ان لدى الولايات المتحدة (خطة طوارئ) لإنقاذ الشاه ونظامه في اللحظة الحرجة. وكان الشاه يعوّل كثيرا على هذه الخطة ـ كما يقول ساليفان ـ، ولعل مما أغرى الشاه بتصديق أمر هذه الخطة: التصريح المريب أو (المرائي حسب تعبير ساليفان) الذي أطلقه الرئيس الأمريكي يومئذ: جيمي كارتر إذ قال ـ والشاه يحتضر ـ: «الشاه محبوب من قبل شعبه وعزيز عليه والساهر على منعة ورخاء هذه الواحة المستقرة في هذا الجزء المضطرب من العالم».

2 ـ الصورة الثانية من صور (الولاء الخائن) هي (التفسير الخاطئ) والمضلل للمعلومة الصحيحة).. ان البلاء لا يُمثل في المعلومة الخاطئة فحسب، بل يمثل ـ كذلك ـ في التفسير الملتوي أو الجاهل أو المرائي للمعلومة الصحيحة، ذلك ان التحليل الخاطئ أو المغرض للمعلومة الصحيحة يلتوي بها التواء يوظف دلالتها في غير سياقها، وغير محلها أو في (غير وقتها).. وكثير من الناس لا تنقصهم المعلومة الصحيحة، وإنما ينقصهم منهج التحليل، ونزاهة التفسير وأمانته التي لا يجوز أن يزاحمها غرض آخر قط.. ومن أراد مثلا حيا حاضرا على ذلك، فهذا هو المثل: إن الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية الحالية، ليس سببه فقدان المعلومة الصحيحة (وإن كان قد جرى تضليل في المعلومات أيضا).. وإنما سببه ـ كذلك ـ: التحليل غير النزيه للمعلومة الصحيحة، إذ دُسّت في التحليل رؤى مسبقة تخدم غلاة الصهاينة وحلفائهم.

وليس المراد من هذا الكلام ـ بطبيعة الحال ـ: إيقاع الحكام في حيرة، أو حملهم على الشك في (كل) من حولهم. فهذه أهداف دون لا يجوز أن تكون في أجندة كاتب ينصح لأمته.. وإنما المقصود من المقال كله: تجديد الاحساس والوعي لأجل الاعتبار الجدي بما جرى للآخرين.. ثم ان المقصود كذلك: التعاون الصدوق على تفادي المأزق والأزمات والزلازل السياسية والأمنية من خلال (منهج عملي) هذه بعض ركائزه:

أ ـ الاستيثاق من بناء القرار على معلومة صحيحة (وآليات ذلك كثيرة جدا في هذا العصر بالذات).

ب ـ (المعرفة المباشرة بالواقع).. وبالرجوع إلى مرجعيتنا الإسلامية نجد ان السياسة الشرعية الإسلامية توجب «أن يباشر الحاكم بنفسه الأمور وتصفح الأحوال ولا يعوّل على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة!!. فقد يخون الأمين، ويغش الناصح».. (راجع الماوردي وأبي يعلى وغيرهما).

جـ ـ مرور الشورى بحلقات متدرجة مثل تدرج القضية في المحاكم: الأولى والاستئناف والتمييز. وكان عمر بن الخطاب يفعل ذلك. ففي مسألة الطاعون مثلا: استشار المسلمين فرادى ثم زمرا ثم مشيخة قريش: حلقة بعد حلقة حتى حصحص الحق، وأسفر وجه الصواب.

د ـ (الرأي المستقل) للحاكم، فليس معنى الشورى: صب الآراء في وعاء فارغ، وإنما معناها ـ هنا ـ: الترجيح الحصيف بين الآراء، ولا يكون ذلك إلا برأي مستقل سديد يملكه الحاكم، وبذلك يجمع بين الأخذ بالشورى وبين أدائه لمسؤولياته.