العودة 85 عاما للوراء.. شرط التقدم للأمام

TT

غمامة من الجهل المظلم تغلف العقل الجماعي للأمة المصرية، وتسحبها نحو هاوية لم يشهد التاريخ مثيلا لخطورتها منذ حرم الحاكم بأمر الله على الناس الأكلات القومية المصرية التي توارثوها عن اجدادهم عبر آلاف السنين، كشأن لغة حضارتهم التي منع الحاكم المعتوه التخاطب بها أو تدوينها، وثقافتهم الأرقى التي اشعرته بضآلة ثقافته فقلب نهار المصريين ليلا.

اعمال الابداع المصرية تصادف اليوم قيودا ظنت الانسانية انها تحطمت بسقوط النازية الهتلرية التي احرقت الكتب، وبعدها البشر.

تتصدى جماعات الارهاب الفكري، متنكرة في ازياء عدة كعباءة رجال دين أو روب المحاماة أو الزي «الميري» لأي عمل ابداعي مصري لتحاول منعه تارة بحجة الدين، واخرى باسم المحافظة على الاخلاق وثالثة بحجة الحفاظ على الأمن العام، او مشاعر طائفة بعينها.

الدافع الحقيقي غير المعلن هو سيطرة ذهنية التحريم التي تسوق الانسان الخلاق للمثول امام محاكم التفتيش الجديدة التي قد تختلف قوانينها في الشكل واللغة عن لوائح محاكم القرون الوسطى لكنها نفسها التي وظفها ارباب الجهل لادانة ابي الفيزياء غالليليو غاليللي (1564- 1642) يوم تجاوز علمه افاقهم الضحلة بإعلانه دوران الارض حول الشمس.

مصدر معارف غاليلليو كان كتاب «ثلاثية الجلالة» الذي ترجمته اسرة ميديتشي في فلورنسا من الاغريقية الى اللاتينية، واعتمده علماء كنيقولاس كوبرنيكوس (1473 - 1543) واسحق نيوتن (1643-1727) مصدرا لنظريات الفيزيقيا.

نواة الكتب التي بدأت عصر النهضة جاءت من القسطنطينية حيث، رقدت لألف عام بعد نجاة اقلية كتب من محرقة الفاتيكان في القرن الخامس الميلادي لمحتويات مكتبة الاسكندرية.

وبدورها كانت ترجمات اغريقية لنصوص 800 كتاب من معبد هيليوبوليس المصري ترجمها الكاهن ماتينوس من الهيروغليفية كنواة مكتبة الاسكندرية، اقدم جامعة في التاريخ في القرن الثالث قبل الميلاد.

في الاسكندرية وضع ارشميديس نظريته واخترع طلمبة المياه الجوفية التي لاتزال تستخدم حتى اليوم، وفيها حدد الجغرافيون محيط الكرة الأرضية ثمانمائة عام قبل غاليلليو.

فلماذا تسيطر اليوم على الاسكندرية ومصر غمامة الجهل التي استهدفت مواقع المعرفة على الانترت بنيران الحقد والكراهية نفسها التي استهدفت كتب مكتبة الاسكندرية قبل 15 قرنا؟ وككتب الاسكندرية تعرض موقع «مصريون ضد التمييز الديني» (مارد) لتخريب ارهابيي الانترنت باسم «الجهاد الاسلامي»، تنفيذا لفتوى ادعوا ان مصدرها فقهاء ينتمون للأزهر، «لخطورة الموقع على الاسلام».

مطلوب من الأزهر التوضيح؛ فالموقع يعرض اجتهادات المفكرين لاظهار الروابط بين عناصر الامة المصرية وابعاد اسباب الفتنة بين طوائفها. اذا كان الأزهر غير واع لمن يصدر باسمه فتاوي شريرة تستهدف التخريب فهي مصيبة.

اما اذا كان الأزهر يعلم وسكت، فالمصيبة اعظم؛ فالمتسربلون بعباءته يرتكبون اليوم جريمة لا تقل فداحة واثما في حق البشرية عن احراق الفاتيكان لاهم كنوز المعرفة الانسانية في العالم في القرن الخامس.

سبب الفوضى والفتنة بين ابناء الامة المصرية اليوم هو فقدان الهوية التاريخية المصرية وضياع الذاكرة الجماعية.

الضياع هو ثمرة نبات شيطاني زرعه عسكر يوليو بعد اغتصابهم للسلطة الشرعية عام 1952 في الارض الطيبة بالغائهم للدستور، الذي كان بوصلة هداية لسفينة مصر، طليعة اسطول الاستنارة منذ العصر الهيلليني.

الدساتير التي اعقبت الغاء دستور المملكة المصرية الصادر 18 ابريل 1923 هي محاولات مضحكة لبناء عشش القش محل صرح الجرانيت.

قش مستورد غرس تفرقة الدين، والملة، والعرق والايديولوجية بين المصريين. هناك مثل عالمي يلقنه الاسطى للصبي عند التحاقه بالورشة «طالما انها تعمل، لا تحاول اصلاحها». ببساطة لابد من حرق عشش القش التي حجبت الحقيقة بان الة الصرح الجرانيتي المعروف بالدستور باشا لاتزال صالحة للعمل ولا لزوم للتلاعب بتروسها.

الدستور باشا فصل بين الدولة والحكومة، حيث حرمت المادة 59 دخول افراد العائلة المالكة الوزارة؛ بينما اخضعت المادة 63 الوزراء للمساءلة البرلمانية والزامتهم الاجابة عن استجوابات النواب.

وضعت المادة 64 قيودا ضد الفساد بمنع الوزير شراء او استئجار اي من ممتلكات الحكومة، حتى ولو بيعت في مزاد عام، ومنعته من العمل مستشارا لشركة او المشاركة مباشرة او غير مباشرة في اعمال تجارية او مالية.

المادة 66 تحدد سيادة البرلمان وحقه وحده في سحب الثقة من الوزارة و«عليها الاستقالة فورا».

الدستور باشا ضمن حقوق المواطن وحمايته من تجاوزات الامن (مواد من 4-8) والمادة11 تحرم التجسس على الخطابات والمراسلات والتنصت على التليفون؛ بينما حرمت المادتان 9 و10 مصادرة الاموال والممتلكات، وكفلت الحرية الشخصية وعدم جواز القبض على اي انسان او تجريمه او نفيه او وضعه تحت اقامة جبرية او تفتيش المنازل دون محاكمة. فالقضاء مستقل عن الدولة والحكومة كسلتطين تشريعية وتنفيذية (مادة 30) وضمنت المادة 12 حرية الاعتقاد المطلق والمادة 13 حرية العقيدة وكلفت الدولة بحماية ممارسة الاديان (دون تحديد اديان بعينها دون غيرها).

المواد 14، 15، 16 كفلت حرية الرأي والصحافة والتعبير بأي لغة يختارها فرد أو صحيفة او جماعة.

المادتان 20 و21 كفلتا حرية الاجتماع والتظاهر وحق تكوين الجمعيات والاحزاب والنقابات.

الدستور باشا كان سابقا لعصره في حقوق الانسان؛ فالجنسية المصرية يمنحها القانون (مادة 2) اي ان الأجنبي الذي اختار ان يكون مصريا وعمل لمصلحة مصر، فهو مصري. وكفلت مادة 3 الحرية، والمساواة للجميع امام القانون وفي التمتع بالحقوق المدنية والسياسية ولا تمييز بسبب الاصل أو اللغة أو الدين.

مواد الدستور باشا قبل 85 عاما أعظم وأرقى من دساتير الديموقراطيات الأوروبية الحديثة (عنوان موقع نص الدستور في نهاية المقال)، في اخضاعها الجميع، بمن فيهم الملك، كرأس الدولة، للقانون الخاضع بدوره لسيادة الامة في صورة ممثليها المنتخبين مباشرة من الشعب حسب المادة 23 «جميع السلطات مصدرها الأمة».

لا مصدر للقوانين والتشريعات، مهما كانت قدسية هذا المصدر لدى البعض ـ بمن فيهم الملك نفسه ـ وعمق ايمانهم به، الا البرلمان المنتخب (مادة 25) «لا يصدر قانون الا اذا اقره البرلمان». وإذا اعترض الملك فيعيد مشروع القانون للبرلمان، للنظر فيه (مادة 35)، واذا صوت البرلمان بأغلبية الثلثين ضد رغبة الملك صار القانون نافذا رغم انف الملك (مادة 36).

قارنوا المادة 36 من دستور 1923 يا سادة بمجالس هي اليوم اختام مطاطية في يد أميين يصدقون على مراسيم وقوانين لم يقرأوها أو يناقشوها.

فأي آلة زمن تعود بنا من حلكة ظلام جهل اليوم 85 عاما للوراء، كي تنطلق مصر للامام؟

نص دستور 1923 كاملا http://liberalegyptians.blogspot.com/2006/12/1923.html