لا تقلل من قيمة تلك اللحظة

TT

في مقابلة أجرتها صحيفة «نيويورك تايمز» خلال المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي عام 1960، عبَّر طفل، يبلغ من العمر 10 أعوام، عن الأفكار التي تساور مشاهدو المؤتمر قائلا: «كما تعرفون، في الواقع هذا ممل جدا، ولكن بطريقة أو بأخرى، أنتم لا تشعرون بالممل».

آراء المرء السياسية التي يتناولها خلال أي مؤتمر سياسي تكتسب إثارة لطبيعة اللحظة التي تقال فيها، فهي تقال في لحظات وجيزة. مع اقتراب موعد عقد المؤتمر الديمقراطي عام 1960، أعربت إليانور روزفلت علنا عن أملها في أن تكون صفتا «نكران الذات والشجاعة»، اللتان يتحلى بهما جون كيندي، دافعا له للقبول بمنصب نائب الرئيس حيث يمكن أن «يكبر ويتعلم». وشارك الكاتب الروائي جور فيدال في مسودة غير مألوفة لخطاب كيندي خلال المؤتمر. وشارك سامي ميسلز في كتابة كلمات أغنية حملة الحزب الديمقراطي في ذاك الوقت.

ولكن، يمكن يسمو خطاب المؤتمر القويم فوق الأمور التافهة، وكانت لدى كيندى الموهبة التي تمكنه من إضفاء الأهمية على مرحلة سياسية معينة. وبعد مضي نحو 50 عاما، ما زال مصطلح «الحدود الجديدة» يعبر عن مبدأ مبهم يرتبط بالأجيال التي حاربت خلال الحرب العالمية الثانية وتحملت أعباء الحرب الباردة. ومع ذلك، أضفى الخطاب على السيناتور الشاب جاذبية زينتها القوة، وحمل وعودا «بالمزيد من التضحيات بدلا من المزيد من الأمن».

مرة أخرى نجد أنفسنا في غمار عالم السياسة خلال المؤتمرات، ولا تعوز باراك أوباما النصائح التكتيكية ومنها: تناول القضايا الاقتصادية المرتبطة بكسب العيش واقلع عن تلك اللغة المنمقة الشفافة. ويبدو أن أوباما قد اقتنع بما يعتقد به كثير من الناس، حيث قال: «أنا لا أهدف التركيز على الكلام المنمق، بل أنا أهتم بصورة أكبر بتوضيح كيف أنوي أن أساعد العائلات من الطبقة المتوسطة على الحياة».

من المحتمل أن يكون ذلك خطئا، لاسيما أن أوباما أمامه لحظة تاريخية يندر أن تتكرر، كان عليه أن يملئها بالأشياء المهمة والا ستملئ في النهاية بالحسرة والندامة.

نُصح أوباما بأن يركز على القضايا الاقتصادية الخاصة بالطبقة المتوسطة، كما فعل كل الديمقراطيين حديثا. ولكن كي يلقي المرء خطابا يبقى إلى ما بعد مرحلة معينة، فإن عليه أيضا أن يخاطب التقسيمات الأعمق في الولايات المتحدة التي تعتمد على الثورة واقتناص الفرص وتلك تعود جذورها إلى فترة العبودية والتمييز العنصري والتي تكشفت عنها الأزمات مثل إعصار كاترينا وتلك المنسية في غيابات عالم السياسة، حيث يبدو أنه يوضع في الاعتبار الطبقة المتوسطة وحسب. التفاوت المجتمعي غير منفصل عن الحرية، ولكن يمكن أن يكون التفاوت المجتمعي غير مبرر أخلاقيا في غياب الحراك الاقتصادي. لا يمكن لأميركا أن تقبل بوجود طبقة مجتمعية تعاني من أوضاع صعبة دائما بدون أن تغير من قيمها الحاكمة. إذا لم يواجه أوباما تلك الحقيقة، على ضوء خلفيته وتطلعاته حيال الوحدة والعدالة، سيكون من الصعب تخيل أنه ستتم مواجهتها في يوم من الأيام.

يجب على أوباما في خطابه أن يعزز من حجته حول الدور الضروري للدين وأن ينقل حزبه من العلمانية التي يحيا بها في الوقت الحالي. لا يجب التهاون مع القيم الدينية، فتلك القيم، في التاريخ الأميركي، لا متلازمة مع البحث عن العدالة. كما تؤكد تلك القيم مصدرا سماويا للكرامة الآدمية، التي تعد قاعدة قوية للمساواة بين البشر، والتي لا يمكن لأي قانون أو طاغية أو أي نوع من التحيز أن يزيلها.

وكي يبقى خطاب أوباما في الذاكرة، فإن عليه أن يجد وسيلة للتأكيد على فكرته الأساسية وهي الوحدة الوطنية، التي سقطت في الفترة الأخيرة بسبب الصخب الذي يصاحب الانتخابات الرئاسية. كما يتضمن الخطاب الجيد بعض التصريحات الحزبية الذكية (كما فعل كيندي في خطابه حول الحدود الجديدة). ولكن إذا لم يميز أوباما نفسه بالوحدة التي تتجاوز الحزب والتي يروج لها، سيكون هناك مبرر إيجابي ضعيف لترشيحه. وهناك حاجة إلى هذا التأكيد في الوقت الحالي. الأمم الديمقراطية تقبل الاختلاف في الرأي. وقد يتسبب العصيان في إضعافها. وفي ظروف معينة، يتطلب الولاء لأميركا ولاء لبعضنا بعضا، كما تتطلب الوطنية وحب الوطن حب رفقاء الوطن.

يمكن لأوباما أن يتحدث حول كل تلك النقاط مع قوة مضافة لأنه جزء من قصة أخلاقية عظيمة تتضمن الطموح والإيمان والنضال من أجل تحقيق المساواة بين الأعراق. إنها قصة قوت العيش والأجور التي تُسرق في عمليات الغش والعنف، وقصة الملايين الذين ماتوا بدون أن تحقق آمالهم وقصة الملايين الذين لم ييئسوا ويتخلوا عن آمالهم. إنها قصة الحقائق البينة التي هي أعظم من الرجال غير الأكفاء الذين يضعون تلك الآمال على الأوراق، قصة الرجال والنساء الشجعان الذين حملوا راية تلك الوعود في الواقع والقانون.

هذا هو السبب الذي من أجله سوف أدفع أبنائي للجلوس أمام التلفزيون لمشاهدة خطابات أوباما لأن الرحلة التاريخية التي بدأت بعملية النقل القسري للمواطنين الأفارقة إلى العالم الجديد يمكن أن تنتهي في المكتب البيضاوي، ولأن الحلم المؤجل يمكن أن يتم تحقيقه في النهاية.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ «الشرق الأوسط»