إيران واستراتيجية تجديد الصراعات!

TT

أي قراءة محايدة، تظهر ارتكاز فلسفة التخطيط الاستراتيجي الإيراني على محاور بدأت بفرض السيطرة على الوضع الداخلي بالقوة، وذلك من خلال الباسدران (الحرس)، والباسيج، وهو قوة رديفة غير نظامية، وتعدد أجهزة الأمن والمخابرات، وقسوة الأحكام والبطش بالأقليات التي تتجاوز نسبتها نصف المكونات، وتجسد ذلك في هيمنة الباسدران، بدل الخبراء المدنيين، على المفاصل المهمة للدولة في الطاقة النووية والتصنيع والوزارات وتسخير نسبة عالية من موارد الدولة لمشاريع الأمن والعسكرة والتدخلات، من دون التفات الى الأوضاع الصعبة التي تعيشها الطبقات المسحوقة.. الخ، وهي سياسة دفعت العديد من رموز الثورة الى اتخاذ موقف معارض بطريقة وأخرى.

أما خارجياً فالتوسع الكبير في العلاقات الخاصة، عبر الأجهزة، يثير علامات كبيرة من الشك والريبة، مع وجود اختلافات في طرق التعامل من مكان الى آخر. فبالنسبة لمركز الجزيرة العربية يتفادى الموجهون في مقر المرشد الأعلى الاحتكاك المباشر بالعصب الحساس، لعدم قدرتهم على امتصاص ردود الفعل، أما في الدول الخليجية الصغيرة فيعتمد التحرك على توسيع الانتشار الديموغرافي الموالي، وزرع أكثر ما يمكن من بؤر التوسع التدريجي مقرونة بإثارة عناصر التفكك النسيجي.

ولا تبدو أصابع المؤسسة الإيرانية بعيدة عن الوضع الباكستاني المعقد، لإحداث انفجار قوي في هذه الدولة المهمة، لقلب التوازنات القائمة. وتقدم المنافسات الحزبية الضيقة والمراهقة هناك المزيد من عناصر التشجيع وتعرض الأمن العالمي للخطر.

وحاولت تلك المؤسسة استهداف مصر، مرة من خلال التنفيس عن مشاعر التحريض بفيلم «قاتل الرئيس السادات»، وأخرى بالتشكيك بدور مصر المفصلي في العالم العربي وحوض البحر المتوسط، وأخرى من خلال محاولات تأسيس مراكز تاُثير تحت واجهات فكرية ودينية، وتعقيد جهود مصر في معالجة الأزمات. إلا ان مصر ليست باكستان، والرئيس مبارك ليس بظروف مشرف، فخبرته الواسعة ودهاؤه وعلاقاته الدولية، وتقديره الدقيق للمعطيات العسكرية بوصفه أقدم جنرال جمع بين التكتيك والاستراتيجية، فضلا عن الوعي الأمني المميز في مصر بعد ثلاثة عقود من الحكم وتماسك القوات المسلحة، غلقت كل المنافذ في وجه التوجهات الإيرانية.

وحاولت المؤسسة الإيرانية إيجاد موطئ قدم لها في وسط أفريقيا ونجحت، في فترة ما، لكن نجاحاتها هناك بقيت متقوقعة، فيما خسرت نفوذها في شمال أفريقيا. وقد جاء تصريح الرئيس القذافي في وصفه للمكابرة الإيرانية المرتبطة بتوقع الانهيار في حال تعرض إيران لموقف دولي، دليلاً على فشل محاولات الاستقطاب الإيرانية. وبين فترة وأخرى تتحدث الأنباء عن دور إيراني في دعم الحوثيين في اليمن، أما الوضع في لبنان والعراق فبات معروفاً.

وخلال عهد الرئيس رفسنجاني جرى تكثيف التحرك على دول آسيا الوسطى من منطلقات فكرية، ولم تتحقق نتائج، مع أنها وللإنصاف كانت هادئة.

وفي مرحلة ما حاولت إيران دعم حزب العمال الكردستاني التركي، انطلاقاً من مبدأ الضرب على جناحين، باكستان وتركيا، وهو ما يفتح لها مجالاً أوسع للتحرك في منطقة الخليج. إلا أن الأحزاب التركية أكثر نضوجاً وواقعية من الوضع الباكستاني، وقدرة الجيش التركي على الحركة أكثر من مثيله الباكستاني، فضلاً عن القوة الاقتصادية التركية مقابل الصعوبات الباكستانية، ولا بد أن المخططين الإيرانيين خرجوا بمحصلة خطورة الاحتكاك بالأتراك في المرحلة الحالية، فلجأوا الى تنسيق غير مضمون الاستمرارية.

وبما أن المسألة ليست فكرية والمصدات والموانع كثيرة، فإن بناء قدرة الردع الاستراتيجي تشكل المفصل الأقوى في المخطط الإيراني. فلا توجد دولة واحدة مولعة كولع إيران بالكشف عن التطورات في صناعتها العسكرية، طبعاً عدا النووية، مع أنها تدرك بأن صناعاتها العسكرية ليست مغرية للمشترين، وأسواق السلاح مفتوحة بتقنيات تفوق كثيرا جداً التقنية الإيرانية.

ولسوء حظ المنطقة، والعالم، يبدو المخططون والموجهون الإيرانيون بعيدين عن تشخيص حجم الهواجس الدولية أو غير آبهين بها حيال تحركات تقود الى تجديد مؤسف لصراعات الماضي الغابر. بينما يفرض منطق العقل استبدالها بمشاريع المحبة والتعاون والتنمية الاقتصادية، وتحويل التاريخ الى تراث للمحبة، فتلك رسالة السماء.

ولا شك أنهم ملمون بقدرة المحللين في أجهزة العالم على التتبع وقراءة النيات. ولينظروا الى بغداد، فقد احتلها المغول والتتار، ووقعت ضمن سلطة الصفويين والعثمانيين، وغابت السلطة عن أهلها قروناً، ومع ذلك بقيت..

لكم الله إيها المسحوقون من الشعوب !

[email protected]