الرمز كعائق لنقد السياسة الفلسطينية

TT

هل تستطيع النخبة الفلسطينية الحالية التقدم باتجاه نقد السياسة الفلسطينية التي أوصلت الفلسطينيين إلى الهزيمة على أثر الانتفاضة الثانية؟ وما هي العوائق الحقيقية التي تقف في طريق إنجاز عملية النقد والتقدم على طريق إبداع آليات جديدة في العمل السياسي الفلسطيني؟

ربما كان من الصعب الإجابة عن هذه الأسئلة، من دون التعرض إلى الغياب التاريخي للمؤسسات الفلسطينية التي تقع على عاتقها عملية تأسيس النخبة. هذا الغياب الذي استعيض عنه بسلطة الفرد الرمز الذي يستند في سلطته الى الدور المهيمن للعائلات التقليدية أو سطوة رجال الدين أو كليهما معاً، الأمر الذي أدى بدوره إلى وجود نخب فلسطينية محكومة، بشكل أو بآخر، بسلطة هذا الرمز.

وفي هذا الصدد، يمكننا ملاحظة أن النخب الفلسطينية الحالية التي لم تنبثق عن المؤسسات والتي اعتادت أن تعتاش على ما تقدمه لها سلطة القائد الرمز، هي ذاتها من نظّر لسياسة الخراب، وهي نفسها من دافع عن «عسكرة» الانتفاضة، وهي أيضا من انقاد إلى طريقة الرمز الفرد في قيادة الشعب الفلسطيني دون أن تتجرأ ولو لمرة واحدة على نقد تلك الطريقة التي أوصلت الفلسطينيين إلى الهزيمة.

ولعل المعضلة الأهم والأشق لا تكمن فقط في غياب هذه المؤسسات وبالتالي غياب تلك النخب الحقيقية التي تقع على عاتقها عملية إبداع فكر سياسي يخدم القضية الوطنية، بل أيضا في وجود نخب عاجزة عن تقديم ما هو مفيد وجديد من أجل تجديد الفكر السياسي الفلسطيني ورفع سويته لكي يستطيع التصدي للمهام الثقيلة التي تواجهه. ولعل وجود نخب تنقاد بشكل أعمى إلى سلطة الفرد المتحكم في صنع القرار الفلسطيني هو ما يشكل بحد ذاته كارثة على القضية الفلسطينية، بل لنا أن نلاحظ أيضا أن معضلة الفكر السياسي الفلسطيني هذه لا تنتمي فقط إلى الحاضر بقدر ما هي ضاربة الجذور عميقاً الماضي. فقد ظل الفكر السياسي الفلسطيني تاريخيا منقادا، بشكل أو بآخر، إلى الذهنية الشعبوية التي تنزع إلى محاكاة وتقديس الرموز على حساب القضية الوطنية ذاتها. والعودة إلى التاريخ الفلسطيني تمكننا من ملاحظة أن الفكر النقدي الفلسطيني على الرغم من الهزائم الكثيرة لم يقدم رؤية نقدية يستشف منها أنه قابل للتعلم من تجاربه. ورغم مضي ستين عاما على النكبة الفلسطينية لم تقدم دراسات مهمة تنتقد مسار السياسة الفلسطينية الماضية أو حتى تضع الرموز الفلسطينية التي قادت النضال الوطني على مشرحة الدراسة والنقد. ونادرة هي الدراسات التي تطرقت مثلا للدور السياسي الكارثي على القضية الوطنية الفلسطينية الذي لعبه الحاج أمين الحسيني وغيره في حقبة الثلاثينات من القرن الماضي، ودون ذكر الآثار المدمرة للسياسة الفلسطينية الماضية وما أدت إليه من كوارث. وذلك على النقيض من التجربة الإسرائيلية التي لم تصل في تقديرها لرموزها السياسية إلى حد القداسة، فدافيد بن غوريون، الذي يعتبر مؤسس الدولة العبرية والذي لعب دورا كبيرا لا يستهان به عشية تأسيس إسرائيل، لم يرقَ إلى مستوى الرموز الفلسطينية، لا بل وجدنا كيف همش في ما بعد وكيف بدأ يخرج شيئا فشيئا من الحياة السياسية في إسرائيل وذلك بسبب وجود نخب إسرائيلية بنيت من خلال دولة المؤسسات وكان لها الدور الأبرز في الحياة السياسية في إسرائيل. وحتى دور رئيس الوزراء ونستون تشرشل في التجربة البريطانية الذي ساهم بشكل أساسي في دحر ألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية، لم يستطع النجاح في الوصول إلى السلطة بالرغم من كل إنجازاته الكبيرة.

وفي رأينا، أن العائق الأساسي أمام التقدم لنقد التجربة الفلسطينية الماضية هو أن الباحث في هذا المجال لا بد له من أن يخضع العقلية التي قادت العمل الفلسطيني للبحث والتشريح من دون أن يضع في حسبانه ما يعنيه التعرض للرئيس ـ الرمز ياسر عرفات الذي ساهم بصورة رئيسية في تربية الفاسدين والمفسدين داخل الثورة الفلسطينية بداية، ومن ثم داخل السلطة الفلسطينية. كما أنه من الصعب التطرق بالدراسة والنقد للقرار الوطني الفلسطيني من دون التعرض للرمز ذاته الذي كان يمسك بكل زمام القرار الفلسطيني بعيدا عن روح المؤسسة وبمعزل عن رأي النخبة الفلسطينية.

ولا شك أن الباحث الفلسطيني سيجد صعوبات عديدة إذا ما كان جادا في البحث في الفكر السياسي الفلسطيني وفي معضلاته وأزماته، خاصة أن هذا البحث وهذه الدراسة لا بد لهما من أن يتناولا دور الرموز التخريبي وأثرها المدمر على القضية الوطنية. فالتطرق للرموز الفلسطينية هو بحد ذاته مغامرة غير محمودة العواقب ويمكنها ببساطة أن تودي بالباحث إلى التهلكة في ظل أوضاع أمنية يسودها الصراع الذي يصل في بعض الأحيان إلى حد الاحتكام إلى السلاح. وعلى ما يبدو أن هذه العملية لا يمكن لها أن تنجز في الداخل لأسباب كثيرة بعضها يتعلق بعدم استقلالية مراكز البحث الفلسطيني عن مراكز القوى وعن السلطة الفلسطينية ذاتها وعن بعض الزعامات الفلسطينية التي تستمد مشروعيتها من سلطة الرمز ذاته، وبعضها الآخر أمني.

وربما كان من الخطأ الاعتقاد أن الرئيس ياسر عرفات وعلى الرغم من مرور ثلاث سنوات على وفاته، قد فقد رمزيته سواء داخل السلطة أو في أوساط الشعب الفلسطيني الذي يرفعه إلى مستوى القداسة. وربما لهذا السبب يمكننا القول إن جزءا كبيرا من معضلة الفكر السياسي الفلسطيني تتعلق بشكل أساسي في وجود الرموز ودورها في الحياة السياسية الفلسطينية، وأنه لا يمكن لهذا الفكر أن يخطو خطوات نوعية للأمام بدون أن يذلل تلك العقبة، وإن أولى الخطوات لمثل هذا التجاوز تعتمد بشكل رئيسي على طريقة بناء المؤسسات الفلسطينية ومدى استقلالية هذا البناء.

* صحافية فلسطينية مقيمة في فيينا