مخاوف أردنية من موافقة فلسطينية تكرس التوطين

TT

نشهد حاليا أربعة أنواع من الحوار يشارك فيها الفلسطينيون، وكلها أنواع حوار غريبة، يتعايش فيها الأمل والشك في مقام واحد.

هناك حوار بين الأردن وحركة حماس. وهناك حوار ثان بين الرئيس الفلسطيني ورئيس الوزراء الإسرائيلي. وحوار ثالث في القاهرة مع الفصائل الفدائية من أجل المصالحة الفلسطينية. ثم حوار رابع في القاهرة بين المصريين والإسرائيليين من أجل البحث في مصير الجندي الأسير جلعاد شاليط، وما يرتبط بذلك من بحث بالإفراج عن أسرى فلسطينيين (450 أسيرا)، وكذلك البحث بفتح معبر رفح بصورة دائمة.

أول هذه الحوارات بين الأردن وحركة حماس هو أكثره استقطابا للاهتمام. لقد تمت حتى الآن جولتا حوار بين الطرفين، وهناك جولة ثالثة منتظرة على مستوى أعلى مع رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل. ويأتي هذا الحوار بعد مرحلة من القطيعة والعداء والاتهام والمحاكمات لأعضاء من الحركة بتهمة حيازة سلاح أو نقله. والأمر الملفت للنظر جدا أن هذا الحوار جاء بطلب من الأردن وليس بطلب من حماس.

لماذا يتحول العداء إلى حوار؟ ولماذا يتحول الطرف الأقوى (الدولة) إلى طالب للحوار بدل الطرف الأضعف (التنظيم)؟ لقد تحدث البعض عن دوافع لهذا الحوار تتعلق بوضع الإخوان المسلمين في الأردن. وتحدث البعض عن دافع أردني عنوانه تليين حركة حماس لتصبح مؤهلة لقبول التسوية مع إسرائيل، أو لقبول المصالحة مع السلطة الفلسطينية في رام الله. ولكن كل هذه الدوافع في رأيي ليست هي الدوافع الحقيقية للحوار. ومن الأصوب أن نبحث عنها في المفاوضات الإسرائيلية الجارية مع الرئيس محمود عباس، وبخاصة بعد أن أعلن رئيس الوزراء إيهود أولمرت عن مشروعه النهائي لهذه المفاوضات، وهو مشروع تدعم الولايات المتحدة الأميركية قضاياه الأساسية. لقد تضمن مشروع أولمرت موقفا إسرائيليا يعلن رفض موضوع عودة اللاجئين الفلسطينيين من حيث المبدأ. وتضمنت وساطة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية استعدادها لبحث صيغ توطين اللاجئين وتعويضهم. وبقي البند الثالث المتعلق بالموقف الفلسطيني. هل يقبل المفاوض الفلسطيني مشروع أولمرت أو يرفضه؟

الموقف الفلسطيني الرسمي المعلن حتى الآن هو الرفض. ولكن هل هناك مجال لموقف فلسطيني آخر؟ لنفترض أن المفاوض الفلسطيني وافق على مشروع اولمرت، أو رضخ للضغط الأميركي الداعي لقبول المشروع، فماذا سينتج عن ذلك؟ سينتج أولا إقرار فلسطيني رسمي بالتنازل عن حق العودة. وسينتج ثانيا إقرار فلسطيني رسمي بتوطين اللاجئين. وسينتج ثالثا رعاية دولية لقرار التوطين. وهنا يبرز الموضوع الأردني إلى المقدمة، ويمكن أن نفهم على ضوئه أسباب اندفاعه إلى الحوار مع حركة حماس، فالتوطين له في الأردن معاني كثيرة، أكثر مما لدى أي بلد عربي آخر. التوطين في الأردن قضية «النظام»، لأنه سيكون مسنودا بالشعار الإسرائيلي القديم القائل إن الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين، وهو أمر يعني أن مستقبل النظام الأردني يصبح في قبضة المجهول، وبخاصة حين يستند هذا المستقبل إلى أمرين: الرعاية الدولية (الأميركية ــ الأوروبية) لموضوع التوطين، والغلبة السكانية الفلسطينية. ويكفي أن نتأمل هاتين المسألتين لنعرف ما يترتب عليهما من نتائج (ديمقراطية). ويخشى الأردن أن يجد نفسه فجأة في مواجهة هذه المسائل، وهو كما يبدو، يريد أن يستعد للتعامل معها في وقت مبكر.

ولكن لماذا يخشى الأردن أن يجد نفسه فجأة في مواجهة هذه الاحتمالات؟ لماذا يخشى ذلك وبينه وبين السلطة الفلسطينية، قناة اتصال، وقناة تبادل دائم للمعلومات، فيها من الجانب الفلسطيني صائب عريقات، وفيها من الجانب الأردني رئيس الديوان الملكي. ويتم في هذه القناة إطلاع الأردن على نتائج كل جلسة من الجلسات التفاوضية، ويقال للأردن من خلال هذه القناة إن المفاوض الفلسطيني يرفض المشروع الإسرائيلي؟ الاستنتاج غير المعلن لهذا التساؤل الحساس، هو أن لدى الأردن معلومات أخرى عن طبيعة المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وعن الموقف الفعلي (غير المعلن) للمفاوض الفلسطيني تدفعه لتحسس مواقع قدميه، وبخاصة مع وجود أصوات فلسطينية من خارج السلطة، مقربة تاريخيا من النظام الأردني (د. سري نسيبة) تصرح علنا بأن المقايضة المطروحة أمام المفاوض الفلسطيني لكي يحتفظ بالقدس العربية، هي في التنازل عن حق العودة.

في مواجهة احتمال خطر كهذا؛ خطر فلسطيني (التنازل عن حق العودة)، وخطر أردني (التوطين برعاية دولية)، بادر الأردن إلى إقامة جسور مع العديد من القوى الفلسطينية الفاعلة على الساحة، من أجل معرفة آرائها، ومن أجل إقامة علاقات طبيعية معها، تمكنه من أن يكون حر الحركة داخل الساحة الفلسطينية، وحتى لا يدفع الأردن نتائج مفاجئة تأتي من داخل المفاوضات الجارية.

في هذا السياق تم اتصال الأردن مع حركة حماس، وعقد معها اجتماعين حتى الآن تحت غطاء أمني، (المخابرات من جهة وأعضاء مكتب سياسي من جهة أخرى)، وهناك معلومات عن لقاء ثالث من المحتمل أن يكون له طابع سياسي بحت، يحضره خالد مشعل ويحضره من الجانب الأردني مسؤول سياسي مماثل.

وهناك معلومات أخرى موثوقة تقول، إن هذا اللقاء الأردني مع حركة حماس، لم يكن اللقاء الفلسطيني الأول، فقد سبقته لقاءات.

اللقاء الأول عقد في شهر مارس (آذار) من العام الحالي في مدينة العقبة، وحضره من الجانب الفلسطيني شخصيات سياسية وأكاديمية وتنظيمية، وبحضور الملك عبد الله الثاني وجواد العناني رئيس الوزراء الأردني السابق (فلسطيني)، وعبد السلام المجالي (أردني) وهو الذي قاد المفاوضات حول الاتفاق الأردني ـ الإسرائيلي عام 1994 (اتفاق وادي عربة). وكان اللقاء حواريا مفتوحا، طلب فيه الملك من الجميع أن يتحدثوا بحرية، وأبلغهم أنه يريد أن يعرف منهم تصوراتهم للوضع القائم، وفهمهم للموقف الإسرائيلي، ورأيهم في المفاوضات الجارية، والاحتمالات التي يرونها للمستقبل. وقد تحدث الجميع أمام الملك بصراحة، وعبروا عن مواقف تجمع على أنه لن يكون هناك حل لصالح الفلسطينيين، واقترح بعضهم حتى أن يتم تجديد العلاقات الفلسطينية ـ الأردنية. وهنا كان الملك صريحا وحاسما في جوابه، بأنه لن يكون هناك أي بحث في هذا الموضوع إلا بعد إنجاز التسوية الفلسطينية.

اللقاء الثاني مع الشخصيات الفلسطينية عقد في الأردن أيضا، وكان هذه المرة مقتصرا على الاقتصاديين. ولم يخرج الحوار فيه عن إطار اللقاء السابق.

... ثم كان اللقاء الأردني ـ الفلسطيني الثالث مع حركة حماس، وهو الذي ركزت عليه وسائل الإعلام.

ما يلفت النظر في هذه اللقاءات، وبخاصة اللقاء الأول والثاني، هو الطريقة التي استعملت في ترتيبهما. إذ جرى الاتصال مع كل فرد عبر الهاتف، في منزله أو في مكتبه، وقال المتصل علنا إنه فلان، وأنه يتحدث من الديوان الملكي الأردني، وانه يسأل الشخص المعني إذا ما كان يرغب في حضور اجتماع بحضور الملك للتداول في الأوضاع.

وحين تحفظ البعض على طبيعة الاتصال قائلين إنهم يحتاجون إلى مراجعة المسؤولين الفلسطينيين، لم يعترض المسؤول الأردني المتصل، وطلب منهم إبلاغه بموقفهم عبر رقم هاتف حدده لهم.

وما يلفت النظر أكثر، أن هؤلاء المتحفظين، وعندما أجروا اتصالاتهم مع المسؤولين الفلسطينيين، سمعوا ترحيبا بالأمر، بل وتشجيعا على حضور هذه اللقاءات، وفهم بعضهم أن مسؤولين فلسطينيين على علم مسبق بذلك، وبخاصة ياسر عبد ربه عضو اللجنة التنفيذية وأمسى أمين سر لها.

هل تعني هذه المعرفة المتبادلة شيئا ما؟

البعض يقول إن هدفها الرئيس تكوين رأي عام فلسطيني ـ أردني ضد فكرة الوطن البديل الإسرائيلية، والتي قد تتحول إلى فكرة أميركية.

وهذا البعض يقول أيضا إن هدفها الرئيس الثاني هو التمهيد لمواجهة شعار الوطن البديل الإسرائيلي بشعار المملكة المتحدة الأردني، والذي طرحه الملك حسين عام 1971، وذلك حتى لا يكون التوطين مدخلا لنزاعات فلسطينية ـ أردنية جديدة.

وتبرز هذه التوقعات خطرين أساسيين: خطر التوطين، وخطر انهيار البحث في موضوع الدولة الفلسطينية.