النفط والتطرف والديمقراطية: أزمة السياسة الأمريكية في المنطقة

TT

في مقال مسهب نشرته مجلة «الفورين افيرز» المرموقة في عددها الاخير، تقدم كوندليزا رايس رؤيتها للمصلحة القومية الامريكية مع حلول خريف إدارة بوش، وهي رؤية تميل الى دمج عناصر من المدرستين الواقعية والمثالية في الفكر الاستراتيجي الامريكي. المقالة تعكس الدور البارز الذي صارت تلعبه رايس امام تراجع دور الصقور في الإدارة، لكنها تعكس اكثر منطلقات التفكير الامريكي وملامحه بعد تجربة إدارة بوش لا سيما في منطقتنا. تقر رايس ان معضلة السياسة الامريكية في الشرق الاوسط هي انها ولزمن طويل تعاملت مع المنطقة وكأنها استثناء من التوجه الامريكي العام لدعم الديمقراطية، وهي اختارت اعطاء الاولوية للاستقرار حتى وان قاد ذلك الى التحالف مع نظم ديكتاتورية او سلطوية لا تشارك الولايات المتحدة قيمها، والنتيجة كما تراها رايس ان آليات التطور الديمقراطي وامكانيات التعبير عن الرأي قد اغلقت لزمن طويل واصبح المسجد والمدارس الدينية الساحة الوحيدة للنشاط السياسي الذي انتج الاسلام السياسي الراديكالي، وبالتالي ادى تفضيل الاستقرار قصير الامد والهادف الى ديمومة تدفق النفط الى ظهور خطر طويل الامد لا يهدد هذا التدفق فقط بل يهدد مجمل المنظومة السياسية والفكرية التي قامت عليها الزعامة الامريكية.

ببساطة ازمة السياسة الامريكية في المنطقة هي ازمة التناقض بين القيم والمصالح الامريكية وصعوبة الوصول الى رزمة واحدة تلتزم البراغماتية دون ان تصطدم بتوجهات المدرسة المثالية، بالطبع مثل هذا التناقض يواجه جميع دول العالم التي لا بد لها في لحظات معينة ان تختار بين اعطاء الاولوية لمصالحها او لايديولوجيتها، ولكنه عندما يحدث في حالة امريكا لا بد وان تكون له نتائج كبرى لأن ما تفعله الاخيرة او ما لا تفعله هو ذو اثر على توازنات القوى الدولية والاقليمية. تكمن المعضلة هنا في ان تفضيل المصلحة الامريكية في المنطقة والمتمثلة بضمان تدفق النفط بيسر الى العالم الصناعي يعني ان تصبح امريكا قوة محافظة ساعية الى الاستقرار وان تتحالف مع الانظمة غير الديمقراطية اولا لضمان قدرة هذه الانظمة على فرض السلم الداخلي وثانيا لمواصلة قمعها للتيارات الاسلامية المتطرفة وهي لعبة ليست بالجديدة لعبتها انظمة المنطقة بذكاء عندما نجحت بالايحاء بأن بديلها الوحيد هو التيارات الدينية المتطرفة رغم ان هذا الايحاء تحول الى حقيقة بمرور الوقت لان كلا الطرفين الانظمة والمتطرفين انقضوا على بدائلهما فأصبحا اللاعبين الوحيدين في الساحة، المشكلة هنا ان هذا الرهان سيظل ينتج خطرا بعيد المدى لان الشعوب المقموعة ستواصل الربط بين القمع الذي تقوم به الانظمة الحاكمة وبين الدعم الامريكي لهذه الانظمة وتكون نتيجة هذا الربط المزيد من الكراهية لامريكا، وهي كراهية تجد لنفسها ملاذا ايديولوجيا في الحركات الدينية المتشددة. تحت تأثير املاءات 11 سبتمبر حاول الامريكيون اتباع طريق جديد نظَّرَت له رايس نفسها عندما طرحت مفهوم الفوضى الخلاقة معتبرة ان هناك حاجة لاحداث تغيير في المنطقة يطال انظمتها السياسية (لا سيما تلك الاكثر قمعا وراديكالية) والاقتصادية والفكرية، وان لمثل هذا التغيير ثمنا لا بد من دفعه قبل ان تدخل المنطقة الى التاريخ الذي ظلت تعيش معه علاقة انتقائية شاذة. كان التدخل الامريكي في العراق تطبيقا عمليا لهذا التصور الا انه ورغم اصرار رايس في مقالتها الاخيرة على اعتباره مبررا ومهما الا ان الثمن الذي دفع به كان باهظا ويفوق ما تخيله معظم الامريكيين بمن فيهم عرابوه الكبار. لقد تحولت امريكا مع هذا التدخل الى قوة تغيير الامر الذي انتج اصطفافا اقليميا غير معلن ضدها فلا المستفيدون من اوضاع المنطقة القائمة كانوا مستعدين للترحيب بهذا التغيير ولا الساعون الى احداث تغيير في تلك الاوضاع كانوا سيقبلون ان يكون التغيير وفق الوصفة الامريكية، تحالف الطيف السياسي- الايديولوجي الاقليمي ليجعل من هذا التدخل مكلفا جدا، فوجدنا مثلا ان اكثر الخطابات الاعلامية المناوئة للتدخل الامريكي في العراق تأتي من بلدان بعضها يشكل حليفا استراتيجيا لامريكا، رأينا الاسلاميين والقوميين واليساريين وهم اعداء تاريخيون يتحالفون ضد هذا التغيير وبعضهم يتحالف مع انظمة من النوع الذي ظل يعارضه لزمن طويل.

النتيجة ان امريكا اليوم وفي ظل الجدال السائد فيها اصبحت اقل حماسا لمتابعة الطريق واكثر تعاطيا مع حقيقة ان هذه المنطقة تمتلك عناصر غير هينة لمقاومة التغيير وانه ليس بالإمكان احداث قطيعة مفاجئة مع التاريخ الامريكي في المنطقة فقد ينتهي الامر الى ان يأتي كل فعل امريكي بنتيجة معاكسة، واليوم المنطقة ما زالت تشبه نفسها رغم التغيير الكبير الذي ترك اثرا لا يستهان به، ما زالت المنطقة مزيجا من السلطوية والتخلف والراديكالية والاستبداد والاوليغارشية والطائفية السياسية، لكن هذا المزيج وحده هو القادر في هذه اللحظة ان يضمن لامريكا مصلحتها الاساسية والكبرى: النفط. ان اي إدارة جديدة جمهورية كانت ام ديمقراطية لن تستطيع تجاهل الثمن الكبير الذي دفع عندما غيرت امريكا سلوكها واولوياتها، ستواجه الادارة الجديدة تركة كبيرة وتحديات هائلة في مقدمتها ما اظهره الصراع في جورجيا من حدود للقدرة الامريكية ومن ملامح لتراجع القطبية الاحادية، وربما يكون ذلك مقدمة لعهد جديد في المنطقة حيث لا تكون امريكا قوة محافظة ومقاومة للتغيير، ولا قوة ثورية ساعية الى التغيير بأي ثمن، بل قوة تسعى لسياسة تحفظ الاستقرار قصير الامد دون التضحية بالاستقرار بعيد الامد، وهي في الغالب ستكون قوة اقل اقداما على الفعل طالما كان هذا الفعل ينتج تغييرا غير محسوب العواقب او يبقي وضعا غير مضمون النتائج. التحدي الذي ستواجهه المنطقة في المستقبل ليس التدخل الامريكي المفرط، بل الاحجام الامريكي عن التدخل، لقد عرفنا نتائج ما تفعله امريكا، وسيكون علينا ان نتعرف على نتائج ما لا تفعله، وهي لن تكون بالضرورة افضل في منطقة لم تعتد الحياة بدون وصاية.