ما بعد الحسن الثاني والحسين

TT

تبعث الأمكنة في الناس إحساساً يشبه الإحساس الذي تبعثه المرايا. بعضها قاتم، بعضها مريح، بعضها مشرق. كنت أجيء إلى المغرب في الماضي فأشعر بثقل المناخ السياسي. كل شيء له علاقة بالسياسة. الناس تهاب الحاكم والحاكم منزعج من هاجس المعاونين الذين سلمهم مفاتيح القصر فإذا بهم يريدون تحويله إلى مقبرة له. مرة من الجو ومرة من البساتين القريبة.

لذلك كان المغرب في حاجة إلى عسَس في الليل ومخبرين في النهار. وإلى وزير داخلية قادم من مخافر الشرطة لا همّ له سوى إثبات ولائه للمخزن كل يوم. كان الجو السياسي طاغياً في المغرب. أناس في المنفى وأناس في السجن ومعارضة تحاول إيصال صوتها بكل الأساليب المتاحة. وكان الاقتصاد بطيئا. والبطالة واسعة.

هذه المرة خامرني شعور مختلف تماماً في المدن والأرياف. لا سياسة إلا عند الضرورة. والناس تحترم وتحب ولا لزوم لأن تهاب. فقد كانت مرحلة الحسَن الثاني حقبة التحصين الصعب وسط عالم ثالث فقير وعالم عربي متضارب. وبدأت مع محمد السادس مرحلة العفو ونسيان الماضي والتسامح والاتجاه نحو دولة الكفاية.

ولا نريد أن نغش أحداً. فالمسيرة معقدة والدرب طويل طويل. لكن الحركة العمرانية في المغرب مذهلة. والنمو الاقتصادي ذو نسبة لا تتوقف. والبطالة في حدود 9.7% أي تحت العشرة في المائة. وإذا كان الرقم دقيقا فهو أوروبي لا عالم ثالث.

الأسبوع الماضي قرأت أن الأردن يعرض تزويد لبنان بالكهرباء. بلد لا نهر فيه سوى الأردن ولا جبال ولا مواسم أمطار غزيرة، يعرض الكهرباء على بلد مليء بالأنهر والجبال. لم يكن هذا حال عمّان زمن الملك حسين. كانت عاصمة خائفة من الجميع وغارقة في صراع البقاء. الرقم القياسي الذي تركه الحسَن في المغرب، والحسين في المشرق، كان عدد الانقلابات التي تجاوزها كل منهما بشجاعة ملكية لا تصدق. ما سجل منها كان كافيا لكتاب غينيس وما لم يسجل من مؤامرات رمي في البحر أو في النهر. ورافق الانقلابات والأزمات وحروب الحدود والعواصم ضائقات اقتصادية وجمود وشلل. وأحياناً لم يكن في الإمكان التفكير بأكثر من تمضية الأيام على خير. وخاض الحسَن والحسين معارك طاحنة ومريرة في سبيل الاستمرار.

لم تتغير القمم العربية طبعاً. لكن ثمة بلدين عربيين تغيرا على نحو لا يخفى. وللأسف أنا لا أزور عمان لكي أعرف بماذا يشعر المرء الآن. لكنني في مدن المغرب أشعر أن السياسة أصبحت بعيدة في مفهومها المأزوم، برغم مفاجآت المتطرفين، انفجار بعد انفجار. مرة يقتل عرسا ومرة يقتل مصطفى العقاد بعد أن يرى موت ابنته.