الحنين إلى أيام القطبين

TT

تحدث الزميل الاستاذ صالح قلاب في مقال له سابق عن الحنين الشائع الى زمن القطبية الثنائية. الحديث عن الامس بالفعل مهم فهمه اليوم. ففي الماضي القريب كان كل بلد يعيش في أحد حضنين، الأميركي او السوفييتي، في سباق بين القوتين. بمجرد ان يغرز الاميركيون علما في نقطة نائية في القطب الجنوبي يركض السوفييت لرفع علمهم على نقطة مجاورة، ثم يسمونها منطقة استراتيجية. وعندما أرسل السوفييت كلبا الى الفضاء، دعا البيت الابيض الى اجتماع عاجل وأمر وكالة ناسا ان ترسل رجلا الى القمر. وهكذا دام السباق نصف قرن، إلا انه لم يكن في معظمه جميلا مثل التسابق على اكتشاف القطب، او الكواكب، او الاختراعات العلمية، بل كان صراعا، وكان هناك الكثير من الحروب بالنيابة.

بدأت الحرب الباردة بخلاف سخيف في أواخر الحرب العالمية الثانية، بين المنتصرين على النازية. دب النزاع على برلين، العاصمة الألمانية المهدمة، فقسمت بين شرقية للسوفييت، وغربية للاميركيين والبريطانيين والفرنسيين. قرر الغربيون طبع عملة خاصة بغرب المانيا، فطبع السوفييت عملة المانية اخرى. وتوتر الوضع أكثر، حيث منع السوفييت القطارات والقنوات المائية ان تنقل الامدادات الغذائية الى الشق الغربي من المدينة. كانوا يريدون إخراج القوات الغربية واحتكار كل برلين لانفسهم، الا ان الحلفاء امضوا 11 شهرا ينقلون الأغذية والأدوية لبرلينهم بالطائرات. ثم اصابت عدوى المواجهة كل مكان التقت فيه القوتان في انحاء العالم الممزق. وتطورت السياسة الى إقامة انظمة موالية، أو دعم أنظمة حليفة، أو إسقاط انظمة مع المعسكر الآخر. بسببها نشبت الكثير من الحروب الصغيرة ممولة من قبل المعسكرين، ضد بعضهما البعض. وصار العالم مقسما، كوريا شمالية وأخرى جنوبية، وفيتنام شمالية وأخرى جنوبية، ويمن شمالي ويمن جنوبي. صارت البلدان تعرف بحسب ارتباطاتها، حيث لم يكن سهلا على أحد ان يكون محايدا، حتى دول رابطة عدم الانحياز كانت مائلة جدا. في المقابل استمتع أسوأ الناس بالحلف المقدس، ففي أفريقيا مثلا سكت الغرب عن نظام عنصري مقيت في جنوب افريقيا، ونظام فاسد في زمبابوي، فيما تغاضى السوفييت عن جرائم حليفيهم في موزمبيق وانغولا. وساند كل قطب كل حليف بالسلاح، والتصويت في مجلس الأمن، والدعاية، والتثقيف الآيديولوجي. واستطاعت قلة اللعب بين المعسكرين، مثل رئيس الصومال زياد بري الذي نقل البندقية من كتف الشيوعية الى كتف الرأسمالية، ولاحقا فعلها الرئيس أنور السادات.

هل من صالح العالم ان يقف على قطبين لا واحد؟ ربما لو كان التنافس سلميا، أو يضمن هدنة دائمة، لكن الذي حدث في نصف قرن، خلال ثنائية القطبية، تسليح وحروب وخوف. اليوم العالم يبدو مقلوبا، يقف على رأسه، ورغم انعدام التوازن هذا إلا ان معظم دول العالم حرة في داخلها، ومعظم الصراعات التي نراها داخلية، ما عدا تلك المرتبطة بقضية الإرهاب. اعتقد ان العالم افضل بلا توازن قطبي، انظروا الى فيتنام التي قاتلت من اجل تبني الشيوعية تحولت برغبتها الى نظام رأسمالي. ومعظم دول اميركا الجنوبية، التي كانت الولايات المتحدة تعتبرها حديقتها الخلفية، صارت يسارية منتخبة. ورغم التوتر القائم بين الغرب وروسيا إلا أنني أشك في ان تعود الحرب الباردة والقطبية الثنائية الى عقد آخر، لكن من يدري!

[email protected]