رمضان.. والمسجد والغرب

TT

المسجد في دول أوروبا والولايات المتحدة هو المكون الأساسي لصورة الإسلام في الغرب، وكلما جاء شهر رمضان المبارك جاء معه الحديث عن الإسلام في الغرب، خصوصا في الوقت الذي ترسل فيه بعض البلدان الإسلامية بعثات من أئمة المساجد ومقرئي القرآن إلى أوروبا. لم تكن هذه البعثات محل نقاش قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وقبل تفجيرات السابع من يوليو في بريطانيا، وكذلك تفجيرات قطار مدريد. الجو العام في الغرب بعد تلك الأحداث الإرهابية، خلق حالة من الربط بين كل ما هو إسلامي وبين الإرهاب، نظرا لأن معظم من تورطوا في تلك الأحداث كانوا مسلمين. وهو ربط جائر بلا شك فهناك ملايين المسلمين في أوروبا وأمريكا من المسالمين الذين يخدمون مجتمعاتهم الجديدة بكل أمانة وشرف. وتزايدت قتامة الصورة عندما سيطر بعض المتشددين على المساجد في الغرب، من أمثال إمام مسجد فينسبري بارك الشهير في لندن. أول خطوة لتصحيح صورة الإسلام في الغرب تبدأ من المسجد، أي أن ينتزع المسلمون في رمضان مساجدهم من مخالب المتطرفين. ولكن القصة ليست بالسهولة التي يتصورها البعض، فجهد كهذا يتطلب فهما أوروبيا للجاليات المسلمة وعلاقتها بالبلدان الأصلية، وعلاقة المسلمين المسالمين بالمتشددين منهم، وكذلك تأهيل الجالية المسلمة وتسليحها بالعلم كمصل مضاد للتطرف.

سوء الفهم الأوروبي أحيانا يصب في مصلحة التطرف. ففي هولندا، مثلا، هبت ثورة غاضبة في البرلمان الهولندي، الذي استهجن بعض أعضائه أن ترسل الحكومة المغربية سبعة أئمة للصلاة بالمسلمين في هولندا خلال شهر رمضان، وسبب الهيجان كان غيرة على السيادة.. فكيف لقوة خارجية أن ترسل سبعة أشخاص لحل مشاكل في المجتمع الهولندي، خاصة أن هؤلاء الأئمة لا يتحدثون الهولندية وتصعب مراقبة خطبهم؟ كما قال البرلمانيون الهولنديون. المغرب، من زاوية نظره، يرى أنه يقوم بخطوة جادة لإبعاد مسلمي هولندا عن الخطاب المتطرف، وأن هؤلاء الأئمة هم من رجال الدين الفاهمين المعتدلين وسيساعدون في مكافحة التطرف. والمغرب لم يكن ينوي إرسال الأئمة إلى هولندا فقط، فلقد كان يعد خطة لتسفير مائة وستة وسبعين من الأئمة والوعاظ إلى الدول الأوروبية في هذا الشهر، لتعليم مسلمي أوروبا الإسلام المتسامح. وهكذا يفعل الأزهر منذ سنين أيضا، ولكن الغرب اليوم التبس عليه الأمر ولم يعد يميز بين خطاب الأزهر أو خطاب المؤسسة الدينية في المغرب، وبين خطاب المتشددين في لندن ونيوجرسي وهامبورج.. وهذا من أهم المشاكل.

هناك دول بعينها في الغرب يتزايد فيها عدد المسلمين وتحتاج إلى جهد كبير من الدول الإسلامية والدول الأوروبية لإعانة هذه الجاليات على عدم الانزلاق في براثن التطرف، وخير مثال على الدول الأوروبية القابلة لتفجير أزمة بين الإسلام والغرب هي ألمانيا، التي تأسست فيها خلية هامبورج، والتي كان منها اثنان ممن نفذوا عملية الحادي عشر من سبتمبر، وهما محمد عطا المصري وزياد الجراح اللبناني. ووفق الأرقام الحكومية الصادرة عام 2007، يبلغ عدد المسلمين في ألمانيا نحو 3.4 مليون مسلم من أصل العدد الإجمالي لسكان ألمانيا والبالغ نحو 82 مليون نسمة (أي نحو 4.1% من السكان). وبذلك يعتبر المسلمون في ألمانيا أكبر الطوائف الدينية بعد المسيحية. وقد اتضح ذلك التخوف الأمني في مؤتمر للمخابرات الألمانية عقد في بداية نوفمبر 2001 تحت عنوان: «تحديات الإرهاب الإسلامي للمجتمع الدولي»، حيث أكد وقتئذ رئيس المخابرات الألمانية الاتحادية أن احتمال «أن يشن إرهابيون إسلاميون في ألمانيا ضربة عدوانية» على الدولة وارد جدا.

المسجد في الغرب يمكن له أن يلعب الدور الأكبر في إدماج الجاليات المسلمة في مجتمعاتها، وفي نشر خطاب متسامح ومنفتح على الآخر في صفوف زواره، ولكن هل خطباء المساجد في الغرب في وضعهم الحالي مؤهلون للقيام بمثل هذا الدور المهم؟ الدراسات التي أجريت في ألمانيا مثلا تقول بأنهم غير مؤهلين. ففي دراسة ميدانية بعنوان «أئمة المساجد في ألمانيا»، قام بها عالم الاجتماع رؤوف تسيلان بنيت على زياراته للمساجد ومقابلاته مع أئمتها، اكتشف تسيلان أن ما يصل إلى عشرين في المائة من رجال الدين في ألمانيا ينتمون إلى تيار أصولي محافظ، وأن العديد من خطباء المساجد لم تتح لهم فرصة التأهيل العلمي، لذا فهم عرضة لـ«تفسيرات سطحية» للنصوص، وقد وجد تسيلان علاقة بين تجنيد المتطرفين وضحالة الفكر لعدد من رجال الدين غير المتخصصين. وكشفت الدراسة أيضا أنه من بين كل خمسة خطباء في المساجد هناك إمام واحد فقط حاصل على تأهيل أكاديمي. 

وما تلك بالدراسة الوحيدة في هذا الشأن، فهناك دراسة ميدانية صدرت عن مفوضية الاندماج في الحكومة المحلية في العاصمة الألمانية برلين، أشارت إلى أن معظم أئمة المساجد الأتراك والعرب ينقصهم الإلمام الجيد باللغة الألمانية والمعرفة الكافية بالمجتمع الألماني. ولكن في الوقت نفسه، أظهرت الدراسة سعي المسلمين لتطبيع علاقتهم مع المجتمع المحيط بهم. فهل يسعى المسلمون العاديون إلى التعايش الآمن في حين يحرض أئمتهم على رفض الاندماج؟

المسجد في الغرب هو مسؤولية مشتركة بين المسلمين في الغرب أفرادا ومنظمات وحكوماتهم، وكذلك حكومات البلدان الأصلية لهؤلاء المهاجرين المسلمين، ويجب ألا تترك علاقة الإسلام والغرب لتجمعات متطرفة تحاول تشويه صورة الإسلام وطرحه على أنه دين عنف وتطرف. نعرف كمسلمين جيدا سماحة الإسلام، ولكننا نعرف أيضا أن بيننا متطرفين كارهين للغير. في هذا الشهر الكريم، يجب ألا يترك الحوار حول المساجد في الغرب على أنها معامل لتفريخ الإرهاب ومرتعا للتطرف، في الوقت الذي نعرف فيه بأن المساجد هي دور عبادة ومنارات علم، ودور سلام مع النفس ومع الله ومع من حولنا ممن خلق الله.

خطوة البرلمان الهولندي توضح سوء فهم عند الغرب، لكن واجبنا نحن كمسلمين عاديين أن نوضح للغرب أن الإسلام دين سلام، وليست هناك مناسبة أفضل من شهر رمضان الكريم لتصحيح دور المسجد في الغرب ومعه تنصلح صورة الإسلام عامة. وليس لدي شك في أن هناك الكثيرين من المسلمين الغيورين على دينهم الذين يريدون أن ينهوا حالة استحواذ التطرف على بعض مساجدهم.

مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان خطوة كبرى في تصحيح المفاهيم، كذلك مبادرة الأزهر ومبادرات حكومة المغرب، وكذلك مبادرات المساجد في برلين بيوم مفتوح لتعريف زوار المسجد من الغرب بسماحة الإسلام، وكذلك مجهودات المجتمع المدني، كمظاهرة المسلمين الألمان ضد اختطاف الرهينة الألمانية في العراق. الأمر يحتاج إلى تضافر جهود بين الدول والمؤسسات والأفراد، فالإسلام أكبر وأوسع وأجمل من أن يترك لغضب وحقد المتطرفين.