لغتهم وأسرانا

TT

يدا الأم الفلسطينية اللتان امتدتا إلى الحافلة بحثاً عن ابن عائد من سجن اسرائيلي، شكلتا لوحة للتوق والحنان، ولهفة الأم التي لا يروي ظمأها سوى ضمّة حنونة لفلذة كبدها، وهي، ككل الأمهات الفلسطينيات، انتظرت سنوات من عذاب الاحتلال الأجنبي، وسنوات من مرارة القمع المتواصل منذ ستين عاماً ليعود ابنها الشاب المقاوم أشيب من سجن تزجّ فيه سلطات الاحتلال عشرات المقاومين الشباب كلّ يوم. وإن خرج هؤلاء الأسرى اليوم فقد انتقلوا من سجن إلى آخر أكبر مغلق بالحصار الوحشي بعد أن قضى معظمهم الأحكام التي فرضها الاحتلال عليهم، وبقي لمعظمهم بضعة أشهر فقط لإطلاق سراحهم. ومع إطلاق سراح هؤلاء الأسرى، قامت إسرائيل باحتجاز أكثر من مئتي فلسطيني في الشهر الماضي فقط، ويمكن القول إن جميع الفلسطينيين يعيشون في سجن احتلال بغيض، مقطّع بالحواجز، ومقيَّد بالحصار، ومعذَّب بالإهانة والإذلال، وصلف الإجراءات العنصرية البغيضة. وقد تراوحت أخبار إطلاق سراح مئة وثمانية وتسعين أسيراً فلسطينياً بين إجراءات بناء ثقة، إلى دعم زيارة رايس السابقة إلى المنطقة، إلى دعم المعتدين ضدّ المتشددين الفلسطينيين الآخرين. ولكنّ اللافت في الأمر هو طريقة عرض الإعلام العربي للخبر، فهو لم يخرج عن الإطار الذي رسمته الدوائر الإعلامية الصهيونية لهذه التغطية. الأمر الأول هو تحويل كلّ هؤلاء الأسرى إلى أرقام بدلاً من نشر الاسم والصورة والحادث الذي أدى إلى الاعتقال، خاصةً وأنّ سعيد العتبة يعتبر أقدم أسير في العالم حيث أمضى واحداً وثلاثين عاماً في سجون الاحتلال بينما امضى نيلسن مانديلا، أشهر سجين في العالم، ثمانيةً وعشرين عاماً في سجون الاحتلال العنصري وأصبح اسمه على كلّ لسان في الغرب والشرق. كما أن سعيد العتبة سُجن بتهمة التخطيط لزرع عبوات ناسفة أمام عربات الجيش الإسرائيلي بينما كان يستعدّ لإتمام زفافه وهو ابن الأربعة والعشرين ربيعاً، وقد خرج اليوم وهو في الخامسة والخمسين من عمره، ولا يعلم المرء إذا كان هذا سبباً للاحتفال أم للتوقف عند أسلوب الاستعمار الإسرائيلي الذي يحطّم حياة الناس بالطريقة الوحشية التي يشاء. كما يجب أن نذكر أن والد سعيد العتبة قد قضى كمداً عليه قبل تسع سنوات أمام بوابة السجن بينما كان يتوسل الجلادين الإسرائيليين السماح له بزيارته. لقد دخل سعيد العتبة موسوعة غينيس للأرقام القياسية، إذ لم يسجّل في التاريخ أنّ أسيراً أمضى كلّ هذه السنوات في المعتقل، ويجب أن تدخل إسرائيل أيضا في مجموعة غينيس باعتبارها كياناً تفنن في سجن أطفال تعدّ اعمارهم بالأشهر، وفي سجن وتعذيب نساء وأمهات بشكل لم يسبق للعالم أن شهد له مثيلاً، وباعتبارها آخر استعمار عنصري أوروبي يعاني منه العالم.

فمن بين الأسرى الذين أُفرج عنهم، غادة جاسر أبو عمر، ابنة العامين ونصف العام التي رأت الحياة لأول مرة وراء جدران المعتقلات الإسرائيلية الضيقة وزنازينها الحديدية وسجّانيها المعروفين بالوحشية والتعذيب، ولم يبقَ على انقضاء محكومية والدة الطفلة خولة الزيتاوي سوى ثلاثة أشهر، وقد كانت طفلتها معتقلة معها كما انّ زوجها معتقل وهو الأسير جاسر أبو عمر الذي يقبع حالياً في سجن النقب. ولم تكن غادة الطفلة الوحيدة في السجن، إذ كانت مع الطفل يوسف الذي يبلغ من العمر عاماً واحداً، ويقضي هو الآخر داخل السجن حكماً طويلاً مع أمه. كما كانت الأسيرة آيات دبابسة أصغر أسيرة في السجن، وتبلغ من العمر ستة عشر ربيعاً. وقد أكّدت دبابسة أنّ أوضاع الأسيرات الفلسطينيات في سجن الرامون بالغة السوء من جميع النواحي، بحيث توجد 16 أسيرة في الغرفة التي لا يوجد فيها شباك أو متنفّس، كما أنّ الحمامات لا أبواب لها، وتُرغم الأسيرات على التعرّي أمام السجّانات والسّجانين ويتعرّضن للتعذيب المبرح. وها هي الأسيرة أمل جمعة تحتضر نتيجة إصابتها بمرض خطير بعد التعذيب والعمليات التي أجريت لها من قبل سلطات الاحتلال من دون علمها. كذلك لا تتورّع إدارة السجن عن الاعتداء الجسدي على الأسيرات بالضرب ورشّ الغاز السامّ، ورشّ الماء البارد في فصل الشتاء، وحرمانهنّ من الملابس والأغطية الشتوية.

والمحزن في الأمر أنّ العالم كله يعرف اليوم اسم جلعاد شاليط، ولكنّ أحداً لا يعرف اسم أمل جمعة، أو الطفلة غادة جاسر أبو عمر، أو الطفل يوسف، أو خولة الزيتاوي، أو سعيد العتبة، ذلك لأنّ الإعلاميين العرب أنفسهم لا يحفظون ولا يردّدون هذه الأسماء ولا يقومون بالحملات الدولية لإطلاق سراح آلاف النساء والرجال والأطفال العرب الذين اعتقلتهم إسرائيل بتهم جاهزة تصل أحياناً إلى «النيّة بالقيام بعملية استشهادية» كما كان الحال لدى اعتقال عبيدة أبو عيشة من قرية بيت وزن، وانتصار العجّوري من مخيم عسكر الجديد. كما وضعت القوات الصهيونية الأسيرتين سناء عمرو، 14 عاماً، ورابعة حمايل، 13 عاماً، في سجن الرملة مع السجينات الجنائيات اللواتي يتعاطين المخدرات، ويُشكّلن خطورةً بالغةً على هذه القلّة. كما أبرزت أبشع الصور في الصراع الذي تقوده إسرائيل مثل آمنة منى، 25 عاماً، من بير نبالا، شمال القدس المحتلة حيث تعرّضت منى للتهديد بالقتل أكثر من مرة من قبل السجّانين، وكذلك الأسيرة القاصر سوسن أبو تركي التي تعاني من اضطرابات نفسية بعد اعتداء الجنود عليها بالضرب خاصةً على الرأس. وتفيد المعلومات من «واحة الديمقراطية» التي يفاخر بها الغربيون من أمثال بوش بأنّ الأسيرات العربيات في سجن الرملة يتعرّضن لأساليب مذلّة في التعذيب والإهانة، حيث تُجبر هؤلاء الأسيرات على خلع ملابسهنّ يومياً بشكل كامل، ويتعرّضن بعدها للضرب والإهانة على أيدي السجينات المدانات بالإجرام اللواتي يشاركنهنّ السجن ذاته. ووفق قانون الاعتقال الإداري، تستطيع «واحة الديمقراطية» الغربية هذه اعتقال وتوقيف من تريد من الفتيات والشبان من دون حاجتها لتقديم مذكرة اعتقال أو حتى توجيه تهمة. ولا شكّ لديّ أنه خلال الأسابيع القليلة القادمة ستعوّض إسرائيل عن العدد الذي أفرجت عنه بعدد أكبر من الأسرى العرب الجدد.

إن التعامل مع خبر إطلاق سراح أسرى، اعتُقلوا ظلماً وزوراً وبهتاناً، والاحتفال بهذا الحدث وتجييره سياسياً لصالح الجلادين العنصريين، يشبه إلى حدّ بعيد خبراً آخر تعاملت معه وكالات الأنباء في اليوم ذاته ألا وهو صدور حكم بتبرئة جنود أمريكيين قتلوا أربعة عراقيين بعد أن عصبوا أعينهم، وكبّلوا أيديهم، وأطلقوا النار على رؤوسهم، وألقوا بهم في النهر بعد ذلك. والهدف من تسليط الضوء على هذا الخبر هو الإشارة إلى أنّ قتل الأبرياء غير مسموح في الولايات المتحدة إلا عبر القانون، وأنّ من يُغفل ذلك يُحاكم، وكأن قتل مليون عراقي وتهجير خمسة ملايين ليست مسؤولية من شنّ هذه الحرب المدمّرة على العراق. تماماً كما أنّ إطلاق مئة أسير ممن أمضوا مدة حكم ظالم لا مستند له ولا أساس يهدف إلى تلميع صورة المحتلّ في عيون العرب والعالم. وللأسف فإنّ الإعلام العربي قد تعامل مع كلا الحدثين مستنداً تماماً إلى مصادر الخبر الإسرائيلية والأمريكية من دون أن يواجه أساليبهم الإجرامية بمرجعية معرفية تسلّط الضوء على الصورة الحقيقية الكلية لحياة الإذلال والقتل التي يفرضها الاحتلال على الشعبين العراقي والفلسطيني في كل تحرّك من تحركاتهم وفي كلّ نشاط إنساني يتوقون للقيام به كأناس أحرار من تكبيل وقيود الاحتلال. إنّ القيام بنقل أخبار أسرانا من مصادر العدو من دون تمحيص، والتعامل الجزئي والمنقوص والمترهّل مع قضايا بهذا الحجم وهذه الحساسية والأهمية، ينتقص من الحقوق المشروعة لشعب فلسطين والتي تشهد انزياحاً في الأهمية نتيجة فعالية أعدائنا في استهدافنا وعدم وجود مرجعية مقابلة تقارع الكلمة بالكلمة، والإعلام بالإعلام، والحدث بالحدث على الأقل على المستوى الفكري واللغوي والإعلامي. وإلا هل يُعقل أن يستخدم إعلامنا العربي لغة الأعداء ومصطلحاتهم لتوصيف وضع حالة أسرانا في الوقت الذي يأسر الأعداء بالفعل شعباً عربياً بأكمله يئنّ في براثن استعمار عنصريّ بغيض. أوَ ليس جديراً بالنساء العربيات أن يضعن الخطط المجدية لحمل قضية الأسيرات العربيات إلى نساء العالم برمّته؟ وهل يُعقل أن تتعرض نساء فلسطين وأطفالهنّ الرضّع إلى ما يتعرّضون له من دون أن تتمكن سياسيّة أو امرأة عضو برلمان في الغرب من تسمية أسيرة عربية واحدة في معرض حديثها عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط؟

www.bouthainashaaban.com