أوباما والانتقام التاريخي

TT

سواء أوصَل باراك حسين أوباما إلى عرش البيت الأبيض بعد شهرين أم لم يصل، فإن ذلك لن يغير شيئاً كثيراً في الأمر. فاختراق العِرق الأسود للمحرمات الكبرى حصل، والانتقام التاريخي لقرون طويلة من الذل والقهر والعبودية، تحقق. أستنتج من ذلك عدة أشياء مهمة:

أولاً: أن هناك عدالة كونية في التاريخ. فمَن اضطُّهد زمناً طويلاً سوف يُنتصف له يوماً ما، طال الزمن أم قصر. وهذا الأمر ينطبق على الأفراد كما على الجماعات. وبالتالي فليطمئن المقهورون لسبب عِرقي أو طائفي أو أي شيء آخر. فالعدالة الكونية أو العناية الإلهية سوف تنتقم لهم وتعطيهم حقهم.

ثانياً: أن أوباما يقطف ثمار ما زرعه القائد الشهير مارتن لوثر كنغ، ودفع حياته ثمناً له، عندما اغتالوه عام 1968، قبل أربعين سنة بالضبط. لولا نضاله من أجل الحقوق المدنية للسود ورفع التمييز العنصري عنهم، لما وصل أوباما إلى عتبات البيت الأبيض الآن. هذا ما خطر لي أن أقوله بالأمس القريب عندما دعاني القسم العربي في التلفزيون الفرنسي القناة الرابعة والعشرين، للتحدث عن الموضوع. وأضفت قائلاً: إن الخطاب الذي ألقاه مارتن لوثر كنغ يوم 28 أغسطس 1963، أي قبل خمسة وأربعين عاماً، كان بمثابة نقطة الانطلاق الكبرى لحصول السود على حقوقهم. وهو خطاب هزّ أميركا والعالم وقتها. ويعترف بيل كلينتون الذي كان صغيراً آنذاك ولم يصل إلى العشرين بعد، أنه لم يسمع في حياته خطاباً سياسياً أو فكرياً أقوى منه، وأنه بكى عندما سمعه. والواقع أننا عندما نقرأ هذا الخطاب اليوم، نهتز في أعماقنا. إنه خطاب أخلاقي من الدرجة الأولى، بل وحتى ديني بالمعنى الروحاني العالي للكلمة بقدر ما هو سياسي. لنتذكر بعض عباراته التي ذهبت مثلاً والتي يقطف ثمارها أوباما الآن وكل جيله. يقول القائد الأسود الشهير:

عندي حُلم كبير لكم اليوم يا أصدقائي، إني أحلم بأن تعيش أمتنا يوماً تحت سقف الشعار التالي: كل الناس بغض النظر عن أعراقهم ولدوا متساوين وأحراراً.

أحلم بأن أبناء العبيد وأبناء الملاّكين للعبيد، سوف يجلسون مع بعضهم بعضاً يوماً ما على نفس الطاولة بكل أخوّة ومحبة.

عندي حُلم كبير لكم يا أصدقائي: أحلم بأن أطفالي الأربعة لن يعود أحد يحاكمهم في أميركا على لون الوجه، إنما على مضمون شخصيتهم وميزاتهم.. إلخ.

إنه خطاب رائع بدون شك، ويصلح لكل زمان ومكان. ويا ليتنا في العالم العربي نستهدي به وبأقوال باراك أوباما اليوم أيضاً. ليت كل الحواجز العنصرية والطائفية والمذهبية تزول بين أبناء الوطن الواحد ويصبحون جميعاً أخوة متساوين في كل الدول العربية والإسلامية. وعندئذ نتحاشى الحروب الأهلية والمجازر. لكن أخشى ما أخشاه هو أننا لن ندرك هذه الحقيقة البسيطة قبل المرور بالحروب الأهلية!.

وهنا أصل إلى النقطة الثالثة من حديثي وخلاصاتي المتعلقة بمؤتمر الحزب الديمقراطي الأميركي الأخير الذي توج أوباما كزعيم أوحد. أعتقد أن الشعب الأميركي أعطانا خلال يومين متتاليين درساً في الحرية والديمقراطية والنضج الحضاري. فقد انتصر على نفسه وقبل بأن يكون هناك رئيس أسود لأول مرة في تاريخ أميركا. مَن كان يصدق ذلك قبل عشر سنوات فقط أو حتى خمس سنوات؟ هل نسيتم الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب التي دارت في قسم كبير منها حول المسألة العنصرية باعتبار أن الولايات الجنوبية ترفض مساواتهم في الحقوق واعتبارهم كمواطنين من الدرجة الأولى؟ وهل نسينا أن الزعيم التاريخي أبراهام لنكولين قد دفع حياته ثمناً لمبادئه المثالية، أي لأنه دافع عن حقوق السود؟ وهكذا اغتالوه بطلقة مسدس من وراء ظهره عندما كان يحضر فيلما سينمائيا ولم يغفر العنصريون له فعلته تلك. ما أجدرنا أن نستخلص الدروس والعِبر من كل ذلك في العالم العربي.

ثم هناك شيء مدهش في العرس الديمقراطي الأخير الذي شهدناه. وهو أن آل كلينتون رضخوا للأمر الواقع وتعالوا على جراحاتهم وهتفوا لباراك أوباما، العدو اللدود بالأمس القريب!.

وهذا أيضاً درس ديمقراطي كبير يستحق أن نتأمل فيه نحن العرب. فالسياسي العربي لو هزمه أحدهم في معركة انتخابية على رؤوس الأشهاد، لكان قد اغتاله ولما اعترف بالنتيجة أبداً. نحن تنقصنا الروح الرياضية في المنافسات والحِس بالمسؤولية. لذلك لا نتقدم إلى الأمام وإنما نراوح مكاننا أو نعود إلى الخلف.

أخيراً، لا يمكن إلا أن نشيد باختيار المرشح الآخر جون ماكين لامرأة جميلة ومتزوجة وأم لخمسة أولاد كنائبة للرئيس. هذه أيضاً تعتبر ضربة معلم وقد تعرقل وصول أوباما إلى سدة البيت الأبيض. وعلى أي حال، فالمعركة مفتوحة ويبدو أنها ستكون شرسة جداً جداً.