أميركا.. و«أفارقتها» أمام امتحان تاريخي

TT

لأول مرة منذ سنوات بعيدة يفترض بالناخب الأميركي أن يقرّر بصورة قاطعة وجهة صوته في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

الخيارات واضحة ولا لبس فيها. وعلى أميركا اليوم رغم ارتباكها وقلقها وإحباطاتها أن تختار بين تغيير قد يبدو لكثيرين «راديكاليا» شكلاً ونوعاً، أو استمرار لا يغير في جوهره كثيراً اختيار امرأة على إحدى القائمتين.

الحزب الجمهوري، كالحزب الديمقراطي، كان «خيمة» واسعة تضم تيارات متعددة داخل المجتمع الأميركي، لكنه تحول بعد الحرب العالمية الثانية إلى حزب تقريباً «ثنائي الاتجاهات»، الاتجاه الأول يميني محافظ والثاني يميني معتدل. وكانت القضايا التي تحدّد مقادير «اليمينية» و«الليبرالية» و«الاعتدال» عديدة.. بينها طبيعة المواجهة مع الشيوعية إبان حقبة الحرب الباردة، ودور الدولة في الاقتصاد بما في ذلك السياسة الضريبية والإنفاق الاجتماعي، ومسألة العرق والأقليات، ومسألة الحقوق الشخصية، ومنها حقوق المثليين والإجهاض والعبادة الدينية في المؤسسات التعليمية وحمل السلاح.. إلخ.

دوايت أيزنهاور الرئيس الجمهوري الأول في مرحلة ما بعد الحرب العالمية كان جنرالاً وبطلاً قومياً من أبطال الحرب الظافرين. ولم يكن بحاجة لأن يزايد على أحد في موضوع الدفاع عن أميركا، إلا أن «الماكارثية» المتعصّبة التي شوّهت معظم فترة رئاسته تركت بصماتها على الحزب وأوجدت لها نفوذاً فيه ما زال مستمراً حتى اليوم.

أما العنصرية فكان تطور التعامل الجمهوري معها مختلفاً. ففي القرن الماضي كان قادة الجنوب الديمقراطيون الوجه المألوف للعنصرية. إذ كانوا يدافعون عن حق مالكي المزارع في ولاياتهم الزراعية الغنية باقتناء العبيد ضمن نطاق مبدأ «حقوق الولايات» الذي كان وما زال في صميم فلسفة الحزب الديمقراطي. وبعدما انتصر الرئيس الجمهوري أبراهام لنكولن عام 1865 في الحرب الأهلية على الانفصاليين الجنوبيين وقيادتهم الديمقراطية تلاشى نفوذ الحزب الجمهوري في الجنوب حتى عقد الخمسينات من القرن الماضي. وأخذت الصورة تتغيّر مع تحوّل كثيرين من ديمقراطيي الجنوب المحافظين والعنصريين إلى الحزب الجمهوري بعدما جعلت «الصفقة الجديدة» التي أقرّها الرئيس الديمقراطي فرانكلن روزفلت الحزب الديمقراطي حقاً حزب الوسط.. بل واحياناً يسار الوسط.

وجاءت حملة «الحقوق المدنية» في عهد سيطرة الديمقراطيين (جون كنيدي وليندون جونسون) على البيت الأبيض لتؤكد الطلاق شبه البائن بين الحزب الديمقراطي و«عنصرييه» الجنوبيين، وبالتالي تطلق يد الجمهوريين في المنطقة التي بقيت لقرابة قرن من الزمن محرّمة سياسياً عليهم.

خلال الأيام القليلة الماضية سار الحزب الديمقراطي خطوة جبارة باختياره أول «افريقي أميركي» ـ أو أسود ـ مرشحاً للرئاسة.

كيف سيكون رد فعل الشارع الأميركي على هذه الخطوة؟... هنا السؤال الكبير الذي قد تكون لإجابته تداعيات هائلة تمس جوهر الحياة السياسية والاجتماعية الأميركية.

عندما تكلّم القس مارتن لوثر كينغ، داعية الحقوق المدنية الراحل اللامع عن «حلم» كان يدرك واقعاً تمييزاً ملموساً في المدارس والجامعات والحافلات والمرافق العامة.

وبعد اغتيال كينغ انفجر «الحلم» غضباً وحركات نشيطة، بعضها يائس وبعضها الآخر مغامر وسيئ التوقيت في أواخر الستينات، إلى أن جاء قس آخر، مفوه وقوي العزيمة، مثل كينغ، إسمه جيسي جاكسون.

واختار جاكسون طريق السياسة العملية لا المثاليات النضالية. فكان سلاحه الأمضى تجييش الناخبين لتسجيل أسمائهم في قوائم الاقتراع على طريقة «خير لك أن تضيء شمعة من أن تمضي وقتك وأنت تلعن الظلام».

ونجح جاكسون في كسر الجدار النفسي ـ عند السود أولاً ـ لتقبل فكرة مرشح رئاسي أسود في أميركا، وصار مع أرقام الناخبين التي نجح في تجييشها وتجنيدها للقضية رقماً صعباً في أي مؤتمر حزبي. وبالتالي، أدى كسره ذلك الجدار النفسي إلى حمل السناتور باراك أوباما الشعلة والمضي بها أبعد.

باراك أوباما، صاحب الإسم الغريب على آذان معظم الأميركيين، ابن المثقف المسلم من قبيلة اللوو الكينية، نجح اليوم في أن يقنع ـ على الأقل ـ أحد حزبي السلطة في اميركا بأن الأميركي الأسود يمكن أن يكون رئيساً.

أوباما، كما يقول المنطق، يجب أن يقنع عشرات الملايين من الأميركيين بأنه يستحق دخول البيت الأبيض لمزاياه العلمية والمهنية والشخصية والإقناعية الممتازة. أما إذا استعصى عليه ذلك في مطلع نوفمبر المقبل، وهذا احتمال أكثر من وارد، فالعواقب قد تكون خطيرة...

سيكون من الصعب على الأميركي غير الأسود إذا ما صوّت للمرشح الجمهوري السناتور جون ماكين إقناع جماهير السود بأن خياره منزه تماماً عن النزعة العنصرية، لأن هذه الجماهير تعتقد بأن لديها هذه المرة مرشحاً شاباً جذاباً ومعتدلاً، متخرجاً وزوجته في أرقى جامعات أميركا، ومعتدلاً سياسياً... يجب أن يكون فوق مستوى التحفظ. وفي هذه الحالة ستعني خسارة أوباما أكثر من مجرد خسارة انتخابات.

إنها ستعني لملايين السود، عن حق أو عن باطل، التشكيك بجدارتهم بأن ينظر إليهم كأميركيين.

أميركا تتغيّر عرقياً؟.. نعم. والدليل الإدارتان الأخيرتان على الأقل للرئيسين بيل كلينتون وجورج بوش «الابن»، اللتان اتسعتا لطيفٍ واسع من العرقيات والأصول ليس من السود والهسبانيكيين اللاتينيين فحسب، بل من العرب (دونا شلالا وسبنسر أبراهام) واليابانيين والصينيين أيضاً.

ثم أن أهم الولايات الأميركية انتخابياً اليوم ثلاث ولايات «لاتينية» هي كاليفورنيا وتكساس وفلوريدا، ورابعة تمثل «كوكتيلاً» ثقافياً ودينياً ولغوياً عريقاً هي نيويورك، مع تذكر أن الهسبانيكيين هم الأقلية الأسرع نمواً في البلاد.

الجمهوريون، بعد سنوات بوش الثماني الأخيرة، مدعوون لوعي واقع أميركا الجديد أكثر من أي وقت مضى. وإذا كان بعض المخططين الانتخابيين لماكين يعتبرون أن ضم امرأة إلى القائمة الجمهورية قد يشكل سلاحاً ماضياً يجتذب أصوات النساء الديمقراطيات الساخطات على تجاوز هيلاري كلينتون، فالرهانات الحقيقية... والمخاطر الداهمة أكبر بكثير من مجرد كسب سباق انتخابي.