للعلماء التقدير.. ولكن!؟

TT

قاتل الله الاختراعات الحديثة المثيرة، فها هي هذه الأيام، ونحن نصوم أول يوم من رمضان، تدخل فقهاءنا مجددا في جدل حول «نازلة» جديدة تتعلق بمنتج طبي تركي جديد عبارة عن «لاصق» قالت وكالة الأنباء الفرنسية بأنه يتحكم في الشهية، ويقوي العضلات، ويقلل المياه التي يفقدها الجسم، كما يقلل التعب والإرهاق، وذلك من خلال إفراز مادة تدخل إلى الجسم عبر الجلد، هذه الفتوى التركية تضاف إلى فتاوى مثيرة أخرى، ومنها تلك التي تجيز للفقراء التضحية في عيد الأضحى بالدجاج بديلا عن الغنم والبقر والإبل، وقد أيدها حسب علمي الدكتور يوسف القرضاوي.

لم أورد هذه الفتاوى في معرض المشاركة تأييدا أو معارضة، الذي يهمني هنا أن التعامل مع المستجدات والنوازل والمسائل الفقهية الحساسة تسخن أحيانا درجة الحوار، وسخونة أي حوار تؤدي أحيانا إلى أن يتجاوز التعبير وتتوتر المفردات، وهذا لن يكون مقبولا من عامة الناس، فكيف بالعلماء ورثة الأنبياء والمفترض فيهم أن يتحلوا بأكبر قدر من «الموضوعية» والهدوء في الجدل العلمي في ما بينهم أو مع غيرهم.

يجب أن يتركز النقاش حول أية مسألة شرعية أيا كانت أهميتها أو درجة حساسيتها على المباحثة العلمية المجردة ومقارعة الحجة بالحجة، من دون أية اعتبارات أخرى، وإلا انحرف النقاش العلمي عن مساره، يحدثني أحد علماء السعودية أنه وهو في معرض أي جدل علمي صرف تجد أحيانا من يجعل في حيثيات اعتراضه أن هذه الفتوى أو ذلك الاجتهاد على خلاف ما كان يفتي به مثلا سماحة الشيخ بن باز والعلامة ابن عثيمين او غيرهما، وهذه بالتأكيد مداخلة ليس فيها ما يرقى إلى المناقشة العلمية، فهذان العالمان المبجلان نفساهما أصدرا فتاوى على خلاف ما كان سائدا بين شيوخهما وأقرانهما، فالأول له فتوى شهيرة أحدثت وقتها ضجة كبرى، حين اعتبر الطلقات الثلاث في مجلس واحد طلقة واحدة، والثاني أجرى أحكام السفر على المسافر والسائح والمبتعث مهما طال مكثهم.

ولما اجتهد مفتي قطر الشيخ عبد الله المحمود، في موضوع الرمي في الحج قبل الزوال، قيل عنه حينها بأنه وقع في (هوة مردية، واكتسب بكتابتها سمعة مزرية، وفاه بجهالة جهلاء، وضلالة في هذا الباب عمياء) وهذا أيضا بالتأكيد لا يدخل في باب النقاش العلمي الموضوعي، الذي يقارع الحجة بالحجة والدليل بالدليل، هذا ناهيك من أن فتواه فك الله بها كربة الحجاج ويسر بها عليهم بعد عسر، والعلماء السعوديون الذين يتبنون نفس الفتوى في ازدياد.

كما أنه من الخطأ أيضا أن يتحول النقاش العلمي إلى أسلوب يستخدم فيه الترهيب والوعيد، مثل أن يقال أحيانا بأن من يتبنى هذا الرأي أو ذاك فإنه سيحدث ثلمة في الإسلام، أو سيستغلها أعداء الدين والملة، أو أن متبني هذه الفتوى قد تلبسه الهوى.

في هذه الأيام تجدد الجدل القائم كل ليلة رمضان حول الاعتماد على الرؤية المجردة أو الحساب الفلكي في اثبات دخول رمضان، وهي مسألة قديمة جديدة لن ينقطع الجدل حولها إلا إذا إذا وقعت الواقعة، وكنا نود ونتمنى من مشايخنا الفضلاء التلطف مع المخالفين للفتوى السائدة وعدم وصفهم بالمرجفين والمتخرصين، أو أنهم لم يكترثوا بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم في الموضوع، فقد تعلمنا من مشايخنا أن أفهام الناس تختلف منذ عهد النبوة وستظل كذلك إلى يوم الدين، وليست مخالفة فتوى عالم بالضرورة مخالفة للدين أو ردا للوحي، وقد رفع شيخ الإسلام ابن تيمية الملام عن الأئمة الأعلام في كتيبه الشهير، فكيف نضع الملام عليهم تارة أخرى؟

في تقعيد وتأصيل آداب الحوار لن يختلف معك أحد، ولكن حين يحتدم وطيس النقاش وينزل المتحاورون للميدان يكون لبعضهم شأن آخر.

[email protected]