كسر المسحراتي الطبل ونام!

TT

كنا نتسابق صغارا لصوم رمضان، رغم شفقة الكبار بنا، وكان يأتي الشهر خلال فصل الصيف، ونحن نسكن بيوتا لم تكن بها أية وسائل حديثة لمغالبة حرارة الطقس، فلا مكيفات، ولا مراوح، ولا ثلاجات، ولا كهرباء، ومع هذا فكل ما حولنا يشجع على الصوم: نداءات الباعة في الأسواق، روائح البخور التي تفوح من أواني الشرب في المنازل، صوت المسحراتي يتعالى في دروب جدة العتيقة:

«اصح يا نائم

وحد الدائم».

وأهازيج الصغار في الشوارع الخلفية تهدهد المدى:

«يا فاطر رمضان

يا خاسر دينك

والكلب الأجرب

يجر مصارينك».

حتى الأطفال الصغار جدا لا يجرؤون على المجاهرة بالإفطار خشية أن تلاحقهم تلك الأهازيج، أو ينعتون بأنهم صائمون «من وراء الزير»، والزير هو إناء الماء الفخاري، و«الصائم من وراء الزير» هو الطفل الذي يشرب الماء خلسة بعيدا عن عيون الأسرة والأنداد..

كل شيء في المدينة يكتسب خلال هذا الشهر شيئا من بهاء رمضان، فتكتسي الوجوه بوقار الصوم، وتزدهي الأرواح، وتسمو النفوس بالعواطف، فيتكافل الناس ويقتسمون الفرح..

حينما ذهبت للدراسة بالولايات المتحدة الأمريكية في عقد السبعينات من القرن الماضي لم يشتد إحساسي بالغربة إلا حينما أهل شهر رمضان، وقد خلا ما يحيط بي من كل المظاهر الرمضانية التي تعودتها، فلا أهازيج الصغار تصلني هناك، ولا ضجيج الأسواق، ولا روائح البخور، فكنت كل ما اشتد بي الحنين امتطي صهوة أحلام يقظتي، ممارسا حيلا عقلية شعورية ولا شعورية، فأحلم أنني أسير في عصاري رمضان في أسواق: «الندى»، و«قابل»، و«الخاسكية»، و«باب مكة»، و«العلوي»، ونداءات الباعة تتعالى:

«الله وليك يا صائم

في الجنة جوه يا صائم»

فتهدأ النفس قليلا باجترار الأماكن خيالا، وتواصل الصمود.

اليوم يأتي رمضان من جديد.. ليس كل الأشياء كما كانت في الذاكرة، أشياء كثيرة تغيرت: المسحراتي كسر طبله ونام، أهازيج الصغار اختفت في ضجيج القنوات الفضائية، الأسواق «على عينك يا تاجر»، لكنه رمضان تظل له فرحته الخاصة رغم تغير الأزمنة..

ورمضان كريم.

[email protected]