تضاؤل الحلم بالدولة الفلسطينية

TT

السياسة قادرة على تغطية عجزها وفشلها. الخداع السياسي، باللجوء إلى مكر ودهاء ألاعيب الديبلوماسية، يؤجل مؤقتا انفجار النزاعات والصراعات. الديبلوماسية «اسبرو» السياسة. هي مسكن مؤقت لآلام الفشل السياسي. غير أن الواقع على الأرض هو المحك الذي يكشف أخيرا عجز السياسة ومكر الديبلوماسية.

لم تشغل فلسطين حيِّزا متقدما في سلم اهتمامات إدارة جورج بوش. لتسكين الألم الفلسطيني، لجأت السياسة الأميركية إلى «اسبرو» الديبلوماسية. أقنعت نظام محمود عباس في أنا بوليس (نوفمبر 2007) بالدخول في مفاوضات مع اسرائيل للوصول إلى اتفاق حول حل نهائي.

لم تتدخل إدارة بوش للضغط على اسرائيل. كانت تضغط على عباس كلما تعثرت المفاوضات. وجه الخداع تمثل في منح الادارة الأميركية نفسها فرصة تجنب ويلات انتفاضة فلسطينية جديدة، ريثما ينتهي خريف ولايتها بتسليم البيت الأبيض الى ساكن جديد. لكن العملية التفاوضية وصلت، حتى قبل نهاية المدة الزمنية المحددة لها (نهاية العام الحالي) إلى حالة «انسداد سياسي تام» وتضاؤل الأمل بقيام دولة فلسطينية حقيقية. أثبتت المفاوضات ان اسرائيل متمسكة بالضفة بعد الاستغناء عن غزة. غاب عن بال المسكين عباس ان الفلسطينيين كلما دخلوا في مفاوضات تسارعت وتيرة الاستيطان.

لكي أعطي صورة رقمية تبين استحالة قيام دولة فلسطينية حيوية، أقول ان مساحة الضفة تبلغ خمسة آلاف كيلومتر مربع (نصف مساحة لبنان). الأرقام الاسرائيلية تفضح هذه الاستحالة عندما تبين ان اسرائيل ضاعفت 38 مرة نشاطها الاستيطاني في الضفة، منذ أن دخل عباس معها في العملية التفاوضية.

قضمت اسرائيل مجددا عشرات الكيلومترات المربعة، لاستكمال تمدد المدن والمستوطنات القديمة والجديدة. احتجزت عشرة بالمائة من أجود الأراضي الزراعية خلف السور الذي اقامته، وتعتبره اليوم حدودا بديلة لها عن الخط الأخضر (حدود 1967). البناء يجري على الجانب الفلسطيني من السور، لاستكمال حصار القدس العربية التي تناولت هجمة الاستيطان داخل المدينة أيضا، فيما توغلت مراكز الاستيطان غير «الشرعية» في عمق الضفة، وصولا الى مستوطنات غور الأردن التي تفصل الأردن الدولة عما تبقى من الضفة التي يحتشد فيها أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني.

لست من المتشنجين والمتزمتين الذين يسقطون الرهان على الكفاح السياسي. لكن اسرائيل التي تقول للفلسطينيين ان العمل السياسي السلمي هو السبيل الوحيد لتحقيق حلمهم بالدولة، هي التي تسقط عمليا الرهان على السياسة، بعرقلة العملية التفاوضية بتسريعها التوسع في الاستيطان.

مع الطرق الالتفافية، ومع الجبال الطبيعية، ومع استقلال حماس بغزة، ومع السور والبؤر الاستيطانية الجديدة، ماذا يبقى من الضفة يستاهل التفاوض عليه؟ لا شيء. هناك كثير من الفلسطينيين، وفي مقدمتهم نخب سياسية ومثقفة باتوا يفضلون الانضمام لاسرائيل، بمعنى دولة ديمقراطية واحدة لقوميتين مختلفتين ومتساويتين في الحقوق والواجبات، وهو أمر يرفضه الاسرائيليون خوفا من العامل «الديمغرافي» الذي سيعطي الأغلبية العددية للفلسطينيين خلال عقود قليلة من السنين.

الخداع السياسي بمكر الديبلوماسية مستمر. كوندي توبخ اسرائيل على التوسع في الاستيطان، لكن عاجزة عن منعه، هي تحمل للمفاوض «الصامد» عباس «أفكارا» جديدة تحثه على المضي في المفاوضات البائسة. أولمرت يريد إنجازا تفاوضيا فارغا (لا يتحدث عن الحدود والقدس وعودة اللاجئين) يضيفه الى إنجازات سجله السياسي الباهرة، كمتهم بالابتزاز واستغلال السلطة.

لكن الصفاقة تصل بتسيبي ليفني جميلة الديبلوماسية الاسرائيلية وعميلة الموساد السابقة، لتعتذر مع المعتذرين عن الاستيطان، بالعتب على الفلسطينيين. ليفني تستغرب الخلط بين التفاوض في الغرف والنهش الميداني للأرض: لماذا هذا الصخب حول الاستيطان، طالما ان الكتل الاستيطانية الجديدة والقديمة ستبقى في قبضة اسرائيل «حتماً» في أي حل نهائي؟! وطالما ان السخاء الاسرائيلي سيعوض الفلسطينيين بأراضٍ اسرائيلية قاحلة في النقب، عن أجود الأراضي الزراعية المأهولة بالسكان في الضفة؟!

حماس غزة شامتة بعباس الضفة. لكن حماس دخلت عمليا وواقعيا دائرة «الجهاد» السياسي باتفاق الهدنة مع اسرائيل. بل هي تلمح إلى إمكانية تمديد الهدنة ثلاثين سنة أخرى. الواقع ان حماس تذوقت سابقا حلاوة الهدنة مع شارون عندما كان حاكما عسكريا لغزة في أوائل السبعينات. نكاية بفتح، شجع شارون إخوان غزة الحماسيين على إنشاء جمعيات «العمل الخيري». ظلت الهدنة «الخيرية» قائمة 17 سنة، إلى أن تسيست حماس وتسلحت ملتحقة بالانتفاضة الأولى (1987).

الكل منخرط في خداع السياسة: اسرائيل تفاوض عباس لتغطية الاستيطان. حماس تهادن اسرائيل للاحتفاظ بغزة. اسرائيل تعد حماس بالإفراج عن 450 أسيرا فلسطينيا، في مقابل إفراج حماس عن الجندي المخطوف جلعاد شليط، وتكتفي بالإفراج عن 200 أسير لـ«دعم» المسكين عباس، وتتجاهل دعمه الحقيقي بوقف الاستيطان. أميركا تستخدم مكر الديبلوماسية لتجنيب خريف إدارة بوش ويلات انتفاضة فلسطينية جديدة. ماذا يفعل النظام العربي في ظروف المتغيرات الجديدة: فشل العملية التفاوضية التي كان شاهدا عليها في أنا بوليس. تبدد الحلم بالدولة الفلسطينية في الضفة وغزة. احتمال وصول متزمت اسرائيلي جديد للسلطة يفضل التفوق العسكري الاسرائيلي «الآمن» على السلام مع العرب؟

مصر نجحت في تحقيق هدنة بين حماس واسرائيل تخفف قليلا من بؤس غزة. حماس تفضل البقاء في حضن سورية على الاستقواء بلحية خامنه ئي ونجاد. مصر تنتهز فرصة حيرة الأسد بين نجاد وساركوزي، لتدخل في حوار صعب مع التنظيمات الفلسطينية، لانهاء الانقسام الفلسطيني الخطير.

كل ذلك لا يكفي. ما العمل، إذن،؟ هل يمكن العودة إلى «تعريب» القضية الفلسطينية للتغلب على الانقسام والتفتت في المعسكر الفلسطيني؟ هناك حديث عن خطة ما لدخول قوات مصرية وعربية، بينها قوات سعودية، إلى قطاع غزة، وتولي الأردن مهمة حفظ الأمن في الضفة، ربما لمنع حماس من الاستيلاء عليها.

التعريب احتمال صعب. لكن لا مستحيل في السياسة. لكي تنجح السياسة في التعريب، فهي تحتاج إلى دهاء الديبلوماسية. هل تقنع الديبلوماسية اسرائيل بقبول أمن عربي في الضفة وغزة تحت مظلة شرعية دولية، تمهيدا لفرض حل نهائي «مقبول»، وإن كان «غير عادل»، على حد قول شاعر فلسطين الراحل محمود درويش؟

إذا كان وقف الاستيطان مستحيلا، فهل تقبل اسرائيل بضم فلسطينيي الضفة وغزة اليها، وتحويلها الى دولة ثنائية القومية، في مقابل توطين أربعة ملايين فلسطيني نهائيا، حيث يقيمون في دول الضيافة العربية؟ أم انها تفضل مواجهة انفجار فلسطيني جديد ضد الاحتلال والحصار في الضفة وغزة، انفجار تستفيد منه إيران؟

يبدو أن الجميع في انتظار غودو الأميركي. لعله يقنع اسرائيل بدهاء الديبلوماسية، قبل أن يواجهها غودو الإيراني بسلاح السياسة.