ولحماس رمضانها !

TT

حتى هلال رمضان وتوقيته لم يسلم من المناكفة بين حماس وفتح!

فحكومة حماس في غزة لها رمضانها وتوقيتها وهلالها الخاص، ومثل ذلك حكومة الضفة الغربية، ويجب ألا نستغرب من ذلك بسبب المسافة الطويلة التي تفصل بين دولتي الضفة وغزة، وهي مسافة تتجاوز أعرافنا عن الأقيسة الزمنية والمكانية المعتادة، لا، فهذه الأقيسة العلمية أوهام خادعة للعيون، صحيح أن المسافة بين غزة والضفة لا شيء بالمعنى المكاني، لكنها بالفكر والخيال والرؤى والأحقاد، تتمدد على رقعة شاسعة من المشاعر المتضاربة.

الاخبار تقول ان الحكومة الحمساوية المقالة في قطاع غزة فوضت حسن جوجو، رئيس المحاكم الشرعية في غزة، لاستطلاع الهلال، بينما فوضت حكومة تصريف الأعمال التي يقودها سلام فياض بالضفة الغربية مفتى الديار الفلسطينية محمد حسين.

هذا فيما يخص تحري رؤية الهلال، أما فيما يخص التوقيت في رمضان، فقد أعلنت الحكومة المقالة بدء العمل بالتوقيت الشتوي في قطاع غزة ليل الجمعة الماضي، ما احدث اختلافا في التوقيت مع الضفة التي يجري العمل فيها بهذا التوقيت في أول أيام شهر رمضان. كما نقلت جريدة «الحياة الجديدة» الفلسطينية عن رئيس ديوان الموظفين التابع للحكومة المقالة.

كل هذا يعني أن تحديد إعلان دخول شهر رمضان، شهر الصيام، وتحديد انتهائه، هو ميدان من ميادين إظهار التمايز السياسي عن الطرف الآخر، تحت أي ذريعة فقهية او ما شابه. فأصبح إبراز الاختلاف في الزمن الديني عن الآخر مطلبا ضروريا لاستكمال مظاهر الانفصال والانحياز إلى كينونة أخرى، وهو ما يعني وصول الانفصال النفسي الى درجة عميقة قد لا يعيها المنفصل نفسه، ولقائل ان يقول: لماذا تقع حماس في مثل هذا المطب، رغم انه لا يوجد مبرر فقهي ولا فلكي ولا جغرافي لجعل غزة وحدة مكانية او زمانية مختلفة عن الضفة، فلماذا لم تبق حماس توقيت غزة على توقيت الضفة وبذلك ترسل على الاقل رسالة حسنة بأنها ليست شيئا آخر مختلفا عن بقية الفلسطينيين، خصوصا وان كثيرا من الفقهاء يدعون الى تقليص حجم الاختلاف في تحديد بداية شهر الصيام، وتوحيد مطالع الأهلة؟

الحقيقة أنه لا يوجد جواب واضح على ذلك، وان كان يبدو ان المتحكم هنا هو قرار نفسي جماعي عميق، خصوصا ان المسألة تتصل بجانب ديني، وهو، أعني المحرك الديني، يقع في أساس المحركات الشعورية، لذلك تكون فيه الأفعال الظاهرة في المستوى الواعي، أفعالا عفوية وساخنة... ربما.

لكن الأهم من ذلك هو الإشارة الى هذا التشابك المزمن والمعقد عندنا بين ادارة الدنيا وإدارة الدين، هناك جملة من الرموز الدينية والمناسبات التي يتصارع عليها الساسة من اجل إبقائها في حوزة هذا الطرف او ذاك من أفيال السياسة المتصارعين، هو داء قديم في تاريخنا، ومن امثلته الواضحة، قطع الدعاء في خطبة الجمعة او إبقاؤه، لهذا الحاكم او السلطان، خصوصا في فترة الصراع بين الخليفة العباسي الهزيل في بغداد، وسلاطين او «خلفاء» الفاطميين في مصر، فكان أمير مناطق الصراع في الشام او الحجاز او حتى مصر نفسها، يجعل الدعاء للخليفة العباسي او الفاطمي إعلانا لولائه السياسي لهذا الطرف او ذاك.

وأحيانا كان قطع الدعاء في الخطبة إعلانا لرفض سياسي على هذا الحاكم او ذاك. ويروى عن العز بن عبد السلام، احد فقاء الشام انه حينما تولى خطبة الجامع الاموي في ذروة صراع ورثة صلاح الدين الأيوبي على النفوذ في إماراتهم، ودخول الصليبيين على هذا الخط، قام السلطان الصالح إسماعيل حاكم دمشق، بعد أن وضع يده في يد الصليبيين، وتحالف معهم ضد ابن أخيه حاكم مصر، مقابل تسليم بعض المدن الشامية لهم، فخطب ابن عبد السلام خطبة قوية، أعلن رفضه فيها لما قام به السلطان، وتوج ذلك الرفض بقطع الدعاء له من على المنبر، فكانت تلك إشارة حاسمة للموقف السياسي.

لم يسلم ماضينا ولا حاضرنا من هذا التشابك والتداخل بين أثر السياسة في الدين واثر الدين في السياسة، وأثر ممثلي هذا او ذاك في الشأن الخاص بكل طرف، فلا يمكن نفي تأثير الأحداث السياسية او الضغوط التي تمارسها السلطة على الفقيه، كما لا يمكن نفي أثر الجانب الديني وممثليه في السلطة، وان كان تأثير السياسة أكثر، وهنا نتحدث عن سياسة دينية، ودين سياسي!

هل يمكن الخلاص من هذه المعضلة، وتحديد الصراع السياسي داخل اطاره، وتخليص الجانب الديني منه؟ هنا لنكن دقيقين في المصطلحات والمفاهيم، لأن الدين مفهوم عريض ومتشعب يشمل الجانب الوجداني والإيمان الأخروي تنبني عليها منظومة من القيم والاخلاقيات، وهذا هو أعمق شيء في الدين، أي دين، كما أن هناك الجانب التاريخي في الدين، اعني الرواية الدينية للتاريخ والاحداث، وهذه الرواية تتحكم في اتجاهات المجتمع وتنظيم العلاقة بين طوائفه وشرائحه، إذ أن لكل طائفة أو لون ديني داخل المجتمع روايته الخاصة للتاريخ، والتي ليس بالضرورة أن تكون خاضعة لمنهج التاريخ العلمي، كما أن هناك الجانب التشريعي في الدين، وهو أكثر الجوانب ملامسة للواقع اليومي والعملي في حياة الناس، وأكثر هذه الجوانب إثارة للجدل بحكم حركية الواقع اللانهائية في تطورها وتعقيدها. وبما أننا نتحدث هنا عن رمضان «السياسي» فلا بأس من الإشارة إلى الجدل المتكرر كل سنة بين الفقهاء أنفسهم، ناهيك عن جدلهم مع المختصين الفلكيين، حول صحة الرؤية الفلكية لهلال رمضان، حيث ان الحسابات الفلكية أصبحت قاطعة وعلمية في تحديد موعد إهلال الهلال، بدل الرؤية بالعين المجردة كما كان السائد قبل ثورة علم الفلك الحديث. إذن فحينما نقول الدين، يجب أن نميز بين جوانب هذا الدين، والأمر ذاته حينما نقول السياسة، بين رجالها ومؤسساتها وروايتها، وخطابها الداخلي والخارجي، ومرونتها العالية في الحركة عكس الدين.

خلاصة هذه اللمحة السريعة، هي انه ورغم الحلم الطوباوي في تمييز المجال الديني عن السياسي، حماية للأول وشفافية للثاني، إلا انه لا يمكن ذلك بالسهولة التي نتصور لدينا، فدوما كان هناك استخدام متبادل هنا وهناك، ولا بأس من هذا الاستخدام في حدود ضبط إدارة الشأن الديني من قبل القائمين عليه، ما دام أن دولتنا العربية لا زالت هي دولة الفقيه السياسي: الماوردي، في أحكامه السلطانية التي تقوم على فكرة «سياسة الدنيا وحراسة الدين»، لكن بشرط أن تكون هذه الدولة قوية السيطرة، عميقة الشرعية، وفوق هذا كله... تسوس الدنيا فعلا، أما ما تفعله حماس، أو إمارة حماس الآن فليس إلا استخداما مهينا لمناسبة دينية، من اجل تعميق انفصالها السياسي والشعوري في مثال فج على ما نحذر منه من توظيف الدين في لعبة السياسة.

[email protected]