التصعيد في القوقاز إشارة خطر.. هل من مفاجأة أخرى؟

TT

قبل ثلاثة عقود ذهبت في مهمة الى موسكو، ولا حظت شخصاً يتطلع نحوي ما لبث أن اقترب قائلاً: أنا من أوزبكستان، الروس يحتلون بلادنا بالقوة، وسيأتي يوم نتحرر فيه.. ولم أسهب في التجاوب معه، لأن الـ«KGB» تراقب عن كثب، فأدركت، الى جانب حقائق مذهلة، أن حليف بغداد راحل. وبعد عقد من تلك الحادثة، جاء الى بغداد جنرال صربي من الجيش اليوغسلافي، وكان يتحدث بمرارة، ودراية تنم عن أن الحليف الآخر راحل أيضاً، حيث كان قلقاً أشد القلق على وحدة يوغسلافيا بعد الرئيس تيتو، مسلطاً الضوء على التمزق الخطير بين مكونات متناقضة من الشعوب. وهكذا تمزقت يوغسلافيا، إلا أن الرئيس فلاديمير بوتين عارض استقلال كوسوف، وأطلق تصريحاً يتسم بغاطس تهديد عميق، مشيراً الى أن الاعتراف بكوسوفو لا يخدم اوروبا! متجاهلاً المعاناة البشرية الكبيرة في هذا الاقليم، الذي يزيد عدد نفوسه ثلاثين مرة عن نفوس أوستيا، وما تحملت اوروبا من تبعات بطالة فيه بلغت 50% من القوى العاملة، وحالات تجاوز فظيع على حقوق البشر والحيوان.

لسوء التخطيط والتقدير، بعد نحو ستة أشهر من استقلال كوسوفو اتخذ الرئيس الجورجي ساكاشفيلي قراراً متسرعاً، بإعادة السيطرة على أوستيا الجنوبية، وهي بحجم خاصرة الفأرة، تمهيداً لاستعادة السيطرة على أبخازيا بموقعها الاستراتيجي الحيوي، من دون أي علاقة جغرافية بين المنطقتين، ويبدو أنه وقع ضحية التقديرات الخاطئة منه ومن جهاز مخابراته. فجاء رد الفعل الروسي سريعاً في التوقيت وكاسحاً في تعبئة القوة، مما يدل على أن الاستخبارات الروسية كانت على علم مسبق بالنيات الجورجية، وسكتت عنها لاستدارج ساكاشفيلي الى الفخ لبدء لعبة تغيير المعادلات. ولا غرابة في ذلك، نظراً لاعتماد هذا الجهاز على العنصر البشري التجسسي، فالروس ليسوا أقل قدرة من الاميركان على كسب الجواسيس حول العالم، وإن كانوا أقل تقدماً في الجوانب التكنولوجية الفضائية.

ولم يكن رد الفعل الروسي على خطوة ساكاشفيلي، المتهورة في التوقيت، دفاعاً عن مواطني أوستيا وأبخازيا، مثلما لم يكن ثأراً لصربيا على استقلال كوسوفو، لأن المصالح الروسية الغربية أكبر كثيراً من أوستيا وكوسوفو. بل كان نتاج خليط من التخوف من انتشار حلف الناتو، ومحاولات نصب منظومة الدرع الصاروخي، التي سرع الغزو الروسي لجورجيا قرار بولندا التوقيع على الاتفاق بصددها، ونتيجة مراقبة توجهات أوكرانيا للانضمام الى الناتو، بما له من تأثير كبير على مستقبل قواعد الأسطول الروسي في شبه جزيرة القرم الأوكرانية في البحر الأسود. وطبقاً لذلك شكل الاجتياح الروسي لجورجيا ضربة استباقية تستهدف الاخلال بتوازن الناتو وخططه في البحر الأسود، وعلى مشارف موسكو، واثبات الوجود العسكري، والقدرة على الحركة خارج مجلس الأمن، بعيداً عن المفاوضات والحوار، تمهيداً لتكوين قطب استقطاب جديد. وسبق أن أثبتت حرب الشيشان في بداية ولاية بوتين الأولى، استعداد رجل المخابرات الروسي على اتخاذ قرارات حاسمة في مجال استخدام القوة، وهو أمر مثير للقلق عززه التهديد بتوجيه ضربة نووية الى مواقع الدرع الصاروخي في بولندا، فيما تفادى الغرب التلويح بالسلاح النووي بعد الحرب العالمية الثانية، عدا تصريح عابر للرئيس الفرنسي جاك شيراك، في غمرة القلق من العمليات الإرهابية عقب الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكان المقصود إيران.

ونشرت تقارير تشير الى أن إسرائيل كانت تخطط لتوجيه ضربة الى المنشآت النووية الإيرانية من قواعد جورجية، من الصعب تصديقها أو نفيها، إلا أن مثل هذا التخطيط لا يبدو مرجحاً، لأنه يتطلب الطيران لمئات الكيلومترات فوق أراض إيرانية تدخل ضمن أنطقة الدفاع الجوي نوعاً ما، وربما كان القصد من التسريب إرباك الدفاعات الجوية الإيرانية، ودفعها الى بعثرة قدراتها على جبهات أكثر سعة، مما يشتت الانتباه ويبعثر الموارد، مع القناعة بقدرة الطائرات الحديثة على تفادي دفاعات غير متطورة.

أما احتلال أبخازيا فيمثل جزءا كبيراً من دوافع الغزو الروسي لجورجيا، نظراً لما يشكله الساحل الأبخازي من أهمية كبرى لتوسعة الساحل الروسي على البحر الأسود، لما له من فوائد في التعويض عن قواعد القرم، ولتحقيق عملية انتشار للأسطول الروسي هناك، لمتطلبات أمنية، ولما يكتسب هذا البحر من أهمية قصوى للملاحة التجارية الروسية، للوصول القريب الى البحر الأبيض المتوسط.

ومهما خطط، ومن خطط لذلك، فقد أدت حرب القوقاز الى وضع العالم أمام متغيرات لا ينبغي الاستهانة بها، فالعودة الى الحرب الباردة لم تعد مستبعدة، على الرغم من التداخل الاقتصادي بين روسيا والغرب، فالروس عازمون على الخروج من حقبة الهزيمة النفسية، فيما يريد الغرب لروسيا تجنب سياسة الاستقطاب، وتغليب لغة التعاون على استعراض القوة، وتفهم الهواجس الغربية حيال عدد من الملفات الدولية، لكن لموسكو تطلعات قيصرية جديدة بروح مخابراتية تعتمد على نظرية المؤامرة.

أمام هذا الواقع الصعب، ليس وارداً خضوع الغرب للتوجهات والنيات الروسية، لكن الأهم من أبخازيا والتفكير بتحجيم النفوذ الروسي، لا بد من الوقوف على المؤديات الدولية الحساسة، ومنها ضرورة المضي قدماً في برنامج تسوية الخلافات مع كوريا الشمالية لغلق ملف برنامجها النووي، والانتباه الى الضوابط اللازمة لفرض الاستقرار في باكستان، لمنع تعريض ترسانتها النووية للخطر، وتسليط الضوء على برنامج التحدي النووي الإيراني كأخطر الملفات الشائكة، وكجزء حاسم من جهود منع الانتشار النووي. لأن تصاعد الخلافات مع روسيا تعقد عملية الوصول الى قرارات عقابية حازمة في مجلس الأمن لوقف المماطلات الإيرانية ودفعها الى تبني منطق العقل، وبما أن العقوبات المنفردة، ليست قادرة على وقف مسيرة تخصيب اليورانيوم، فإن احتمالات تبني الغرب خيارات منفردة أو تحالفية خارج مجلس الأمن تبقى قائمة، لوقف التهديدات الإيرانية وسياسة التحدي. وهي رسالة لم تفهمها إيران بعد.

وكلما تزايدت أزمة الممارسات الروسية تعقيداً، تتزايد احتمالات عملية أميركية أو غربية أو إسرائيلية، يكون تفسير رد الفعل على اجتياح جورجيا جزءا منها، ويبدو الملف الإيراني الأكثر توقعاً في خطط العمل خارج النطاق الاقليمي لما حصل في القوقاز.

وحيثما كانت الحال، من الضروري ألا يباغت الغرب مرة أخرى، كما حصل في رد الفعل الروسي المخطط له، ولحصر التفكير في موقع واحد من العالم مردودات عكسية خطيرة، ربما من طراز آخر. ولا بد من تهدئة التوتر مع روسيا.