هل نحتاج إلى حرب باردة جديدة؟

TT

قد يكون لدى البعض الذين يفركون أيديهم استعدادا لاستثمار احتمالات عودة أجواء الحرب الباردة من جديد في أعقاب الأزمة الناشبة بين الدول الغربية وروسيا بسبب جورجيا أسبابهم، وحساباتهم، لكن المؤكد أن لا أحد يعرف على وجه اليقين ماذا سيكون شكل هذه الحرب الباردة الجديدة، وهل سيستفيد منها أحد.

المؤكد ان الزمن لا يعود الى الوراء، وان حتى لو حدثت حرب باردة جديدة فانها لن تكون على شاكلة القديمة التي كانت بين معسكرين منقسمين آيديولوجيا وتقريبا يقتسمان مناطق النفوذ في العالم ويخوضان سباق تسلح شرس، المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق، والغرب بقيادة الولايات المتحدة.

العالم تغير، لأنه لم يعد هناك صراع آيديولوجيات، فالاتحاد السوفياتي السابق لم يعد قائما ووريثته روسيا تتبنى النمط الاقتصادي الغربي، ولا يعتقد انها مستعدة لسباق تسلح جديد على غرار السابق الذي استنزف الاتحاد السوفياتي وكان احد اسباب انهياره، او انها لديها الموارد او الارادة لتحمل تكلفة تمويل تسليح دول تابعة لها. كما لم يعد مواطنوها منعزلون عن العالم وراء ستار حديدي، فهم يسافرون بحرية ويستثمرون ويودعون اموالهم في الخارج بحرية، والشركات الاجنبية تدخل السوق الروسية بحرية. والغرب نفسه اصبح مختلفا، فاوروبا لم تعد مقسمة، ونصفها يختفي وراء ستار حديدي، وجدار برلين سقط وأصبحت المانيا موحدة، وهناك مصالح اقتصادية ضخمة بين اوروبا وروسيا خاصة في مجال الطاقة.

ليس هذا تقليلا من حجم الازمة او اخطارها، لكن ينبغي ايضا فهمها في اطارها وحجمها الحقيقي بدون الوقوع في اوهام الحسابات الخاطئة.

والارجح ان ما يحدث الان هو محاولة من جانب روسيا لرسم خط لما تعتبره مصالحها الحيوية ومناطق نفوذها باعتبارها تصنف نفسها كقوة عظمى، ومحاولة الحصول من الغرب على اعتراف بذلك بعدما رأت ان حلف ناتو يتقدم باتجاه حدودها. وتعكس تصريحات الرئيس الروسي ميدييف يوم الأحد عن النقاط الخمس لسياسة بلاده الخارجية ذلك بشكل واضح من خلال اشارته الى ان لروسيا مناطق نفوذ ومصالح في العالم، وانها ترفض الانفراد الأميركي بالسياسة الخارجية في العالم.

على الجانب الآخر فانه لا يبدو ان هناك احدا لديه شهية لحرب باردة جديدة او دفع موسكو التي تشعر انها لم تعامل بالاحترام اللازم الى مواقف اكثر تشددا، فالولايات المتحدة لم تبد حماسا لفكرة العقوبات، والقوى الكبرى في الاتحاد الاوروبي الممثلة في الدول الاوروبية الغربية الكبيرة لم تستجيب لحماس الاعضاء الجدد من الدول الاوروبية الشرقية التي كانت ضمن الستار الحديدي ايام الاتحاد السوفياتي لاتخاذ اجراءات شديدة بحق روسيا التي تمد اوروبا بحصة كبيرة من استهلاكها من الغاز، والرسالة التي يبدو ان القادة الاوروبيين حريصون على ايصالها لجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق بما فيها جورجيا والخائفة من موسكو هي انه لا توجد حلول عسكرية، فلا تبادروا بفتح جبهات مع روسيا.

ولا يوجد وقت اسوأ من هذا لفتح حرب باردة جديدة تستهلك وتضاعف متاعب العالم الذي يواجه حاليا واحدة من اسوأ ازماته الاقتصادية منذ عقود، ومن شأن حرب كهذه ان تزيد من الحمائية والانعزالية بما يضر باوضاع الاقتصاد العالمي بشكل أكبر، فبالتأكيد العالم لا يحتاج الى حرب باردة جديدة او استقطاب عالمي تتوه وسطه الدول الاصغر، فحتى الحرب الباردة القديمة التي وفرت لبعض الدول امكانية اللعب على تناقضات القوتين العظميين وقتها لتحقيق بعض المصالح، كانت تجعل كل القضايا الاقليمية والمحلية رهينة لهذا الصراع الدولي بصرف النظر عن ارادات او مصالح الاطراف المحلية.