دورة عربية للألعاب الأولمبية

TT

جلست أشاهد الحفل الختامي لدورة بكين الأولمبية بنفس الدهشة التي انتابتني منذ بداية الألعاب الرياضية التي لم تفلح لا منافسات الانتخابات الأمريكية ولا الغزو الروسي لجورجيا في أن تقلل من بهائها أو الاهتمام العالمي بها. وأعترف أنه على مدى أسبوعين من انطلاق المنافسات لم يتوقف سؤال عن الإلحاح على خاطري وهو: هل تستطيع عاصمة عربية أن تستضيف دورة الألعاب الأولمبية وتنتقل منها بالصوت والصورة إلى العالم، كما حدث مع بكين ومن قبلها عواصم عالمية أخرى استضافت دول العالم في منافسات شريفة من أجل الوصول إلى الأرقى والأسرع والأعلى من المستويات الرياضية ؟

لم يكن السؤال ملحاً بسبب ضعف الأداء العربي العام في المسابقات، بل وتراجعه عما سبق من دورات أولمبية؛ فمثل ذلك يمكن تعويضه بالتركيز والتدريب، وحتى لو كان الأداء ضعيفا فإن القصد من المسابقات ليس الفوز بقدر ما هو بذل الجهد، وليس على المرء بعد ذلك إدراك النجاح. ولم تكن المشكلة هي التكلفة، وإذا كانت لندن سوف تنفق قرابة 17 مليار دولار استعدادا للدورة المقبلة عام 2012، فربما كانت التكلفة أعلى في عواصم عربية أخرى تحتاج لما هو أكثر من تجهيزات وبنية أساسية، ولأنه ولأسباب لا تخفى على كثيرين فإن تكلفة المشروعات لدينا تزيد عما هو الحال في بلدان أخرى لديها تقاليد للمحاسبة أكثر صرامة. ولكن هذه التكلفة الأعلى يمكن تعويضها، فهناك دول عربية بالفعل غنية جدا، ويمكنها توفير هذه المليارات بسهولة ويسر وبدون أنواع كثيرة من المحاسبة؛ والأهم من ذلك أن حال دورات الألعاب الأولمبية، وكؤوس العالم ـ أو المونديال ـ لم يعد كما كان في السابق مصدرا لخسارة الدولة المنظمة، بل صار مصدرا لأرباح هائلة نتيجة الإعلانات وحقوق البث التلفزيوني والشركات الراعية التي توفر أموالا طائلة. ولا يمكن اعتبار الطقس مانعا من الموانع التي تقف حائلا أمام دورة ينظمها العرب، فلا يمكن أن تكون موسكو، أو حتى لندن، أحسن حالا من حيث الطقس من عواصم ومدن عربية كثيرة. ومن المؤكد أن المسألة ليست وجود نوع خاص من الكراهية للعرب، فلو راجعنا العقود الأخيرة لوجدنا أن دولة يحكمها حزب شيوعي ليست بالضرورة من الدول الحبيبة لدى دول العالم المختلفة حتى ولو كان يعجبها رخص البضائع الصينية المختلفة.

المرجح هو أنه لن توجد عاصمة أو مدينة عربية على استعداد لاستضافة الدورة الأولمبية لأسباب ثقافية وحضارية بحتة، أي أن الأمر في النهاية سوف يعود إلى الإحجام عن المغامرة بالطلب. وللأمر أسباب لا تخفى على كثيرين، فمن شاهد ألعاب بكين وجد أن فيها ما قد يمنع كل الدول العربية من القيام به حيث يتزامل الآلاف من اللاعبين واللاعبات من دول العالم المختلفة مع بعضهم البعض؛ ولما كانت معظم الدول العربية تطلب الآن الفتوى في أمور كثيرة فإن هناك من الألعاب الأولمبية التي قد تنقسم فيها إدارات الأمور الشرعية في البلدان العربية بين الدول التي ستطالب اللاعبين واللاعبات بلبس الزي الشرعي، أو تلك التي ستحرم اللعبة من الأصل، وفي الحالتين فإن الأمر لن يكون مقبولا من القيادة العالمية للألعاب الأولمبية.

وربما كانت عاصمة عربية أو أكثر قادرة على تجاوز مسألة الفتوى، أو أن لديها من هو على الاستعداد للإفتاء بأن الألعاب الأولمبية كلها واقعة في إطار الاستعداد للأعداء وتقوية الأبدان؛ ولكن المعضلة هي أن اجتماع هذا الكم الهائل من ثقافات العالم لديه من الممارسات في اللبس والموسيقى والعلاقة بين الذكر والأنثى خاصة من جانب مئات الألوف الذين يحضرون من دول العالم المختلفة سوف يثير الكثير من الأزمات المتعلقة بأصول العقيدة. ولكن ربما كان أكثرها صعوبة، هي أننا كعرب لدينا مشكلة تقريبا مع كل دول العالم، فأوروبا كلها استعمرتنا، وأمريكا عدوة دائمة من الطراز الأول، وروسيا تضطهد جماعتنا في الشيشان، والهنود لديهم مشكلة دائمة مع المسلمين، ولا يوجد كثرة من العرب على استعداد لاستقبال الشيعة من إيران. وبالطبع لن يتحمل أحد وصول رياضي واحد من إسرائيل لأن ذلك مهما قيل عن الدورات الأولمبية سوف يعتبر نوعا من أنواع «التطبيع» !.

الأمر الذي حيرني في مشاهدة الألعاب في بكين وحفلات الافتتاح والختام أنها كلها كانت تجرى مع قدر هائل من الفرحة والحبور والسرور والابتسام والمرح. بالطبع فإن الأمر لم يخل أبدا من لحظات حزن ساعة الهزيمة، أو الخروج من المسابقات، ولكن كل ذلك لم يمنع الملايين من ممارسة الاحتفال بهذا اللقاء العالمي والغناء مع مطربين عالميين يتحدثون عن الحب الملتهب في ذلك البناء المعجزة المسمى عش الطائر. ولو أن لجنة عالمية جاءت الى أي من العواصم العربية للبحث في مدى ملاءمتها لعقد الألعاب الأولمبية فإن رفضها لن يكون بسبب نقص الإمكانيات، أو قلة مرات الفوز بالميداليات الذهبية، وإنما لأنها مدن تتمتع بقدر هائل من الكآبة والحزن والعصبية في كل الأوقات، والنظر إلى الحب خاصة الملتهب منه في عش الطائر على أنه نوع من الانحلال المرفوض. العجيب في الأمر أن ذلك هو واقع العرب الآن وهم الذين اخترعوا من قبل أشعار الغزل، وأفكارا في الحب والوصال نقلت عنها الأمم، حتى أن الإسبان والأوربيين يعتقدون أن العرب هم الذين نقلوا لهم أشكالا مختلفة من العلاقات المتحضرة بين الرجل والمرأة. ولكن كل ذلك كان موجودا قبل ظهور حركة الإخوان المسلمين وما تفرع عنها من جماعات سلفية وأصولية مختلفة.

ومن الصعب تماما إدراك أسباب هذه الحالة المعاصرة بشكل كامل خاصة أن الغالبية الساحقة من سكان البلدان العربية من الشباب حيث العواطف مشبوبة وأسباب الانطلاق موجودة ومنتشرة؛ ولكن الشباب لدينا غير الشباب في بلاد العالم الأخرى حيث يقبل هؤلاء الآخرون على الحياة، أما المثال الرائع لجماعتنا فهو مدى شجاعة الإقدام على الموت. ولدى الآخرين فإن الحب قيمة مقدسة من ناحية، وباعثة على السعادة من ناحية أخرى، أما لدينا فإنه يمثل المعصية والخطيئة من ناحية، ومن يسمع كثرة من أغانينا سوف يجدها سببا في أنواع مختلفة من التعاسة. المدهش في الأمر أن الغالبية من شبابنا هم مجرد قيمة إحصائية ترد في الجداول والتقارير الوزارية، ولكن النظرة في المجالات السياسية والاقتصادية وحتى الرياضية نجد فيها الكثير من كبار السن والعجزة.

ولكن المسألة ربما تكون أكثر عمقا من ذلك، فالدورات الأولمبية هي جزء من تيار حركة التقدم العالمية التي تؤمن بعالم واحد، وتشكل واحدا من أهم أطر الرابطة الإنسانية التي تجمع الجماعة البشرية بغض النظر عن الدين والعرق والمذهب واللون والثقافة. هذا النوع من الأخوة على الكوكب الأرضي ليس محمودا دائما لدينا خاصة وقد انقسم العالم إلى دار سلام ودار حرب منذ وقت طويل، ولم يصلح من هذا الانقسام المشاركة أو محاولة المشاركة في صناعة مستقبل مشترك للإنسانية. مثل هذا النوع من التعامل مع المستقبل ليس أمرا عربيا أصيلا، بل ان الأصالة في العالم العربي مرتبطة بالأصول، والأصول قادمة من الماضي، حيث المسألة متبلورة في سلالات بعضها يرتبط بالجياد وبعضها الآخر بالبشر؛ وبعضها كامن في الكتب، وبعضها قائم إلى يوم يبعثون.

ومع ذلك فإنه لا توجد حاجة إلى اليأس، وربما تفعلها دولة عربية، وكان ممكنا أن تكون بيروت هي العاصمة المرشحة بسبب الانفتاح اللبناني المعروف، ولكن لبنان ليس لديه مال، كما أن حزب الله لن يكون متحمسا لدورة مؤثرة في درجة سيطرته على مطار بيروت. وفي وقت من الأوقات كانت القاهرة سوف تكون عاصمة العرب في هذه المسألة، ولكن الإفتاء في القاهرة صار صعبا، ولا تكفي ميدالية برونزية لتبرير استضافة الألعاب الأولمبية كلها. ولكن من يعلم ربما تفعلها دبي، ولكن المشكلة هي أن دبي خلقت لكي تستضيف الرياضيين من العالم للعب على أرضها لا لكي تشاركهم في المسابقات. فمن من العرب سوف يلبون النداء لاستضافة أول دورة للألعاب الأولمبية؟!