اللقافة

TT

من أكثر الناس الذين مرّوا عليّ في حياتي (وليس عندهم دم)، رجل أعرفه معرفة بسيطة، لكن جمعتني به مناسبة اجتماعية عند رجل خلوق. وبما أن الجو أو الطقس في تلك الليلة كان لطيفاً، فقد كانت جلستنا في حديقة منزله على كراسي من (البامبو) ـ الخيزران ـ.

وحيث إن ذلك الرجل فوق ما هو ثرثار ولا يمل أو يتوقف عن الحكي في أي موضوع، ولا يترك المجال حتى لأي إنسان أن يتدخل أو يقاطعه بالحديث، أقول إنه فوق تلك الصفة السيئة، فهو أيضاً بدين جداً لا أعرف كيف استطاعت قدماه أن تحمل أثقاله.

وما أن دخل وقبل أن يستقر على مقعده وإذ هو قد بدأ الحديث من حيث أن انتهى أحدهم، ثم جلس على المقعد وهو يتحدث، وما هي إلاّ دقيقة وإذ نحن نستمع إلى أصوات الخشب وهي تتفزّر ثم تتحطّم دفعة واحدة تحت ثقله، واستطاع في آخر لحظة أن يتدارك نفسه عن السقوط، ومع ذلك استمر في حديثه المتواصل وهو واقف من دون أن يلتفت أو يهتز، وفي هذه الأثناء كان مضيفنا صاحب المنزل قد جمع حطام الكرسي من على الأرض وسلّمه للمستخدم، وأحضر كرسياً آخر بمواصفات أخرى أكثر قوة، وجلس الرجل السمين الثرثار عليه من دون أن يتوقف، ومن دون أن يقول: آسف، أو شكراً، استمر بالحديث وكأن شيئاً لم يكن.

هذه المناسبة التي حضرتها وخرجت منها وأذني تؤلمني من كثر ما ولج بداخلها من (رغي) إلى درجة أني أخذت أضرب (كفاً بكف) متعجباً من القدرة الخارقة عند بعض الناس من جمع هذا المخزون الهائل من الكلام ومن ثم (استفراغه) على السامعين من عباد الله من دون أية شفقة أو رحمة.

وهذه المناسبة التي ذكرتها لكم كانت في منزل رجل (زكرتي) ـ أي أنه مرن ومنفتح ـ ومجلسه كله عبارة عن (بساط أحمدي).. وأنني شخصياً (أتونّس) به لولا تلك (العلّة الثقيلة) في تلك الليلة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال زحزحتها، إلا بالهروب منها، وهذا ما كان.

غير أنني قبلها دعيت أيضاً لمناسبة اجتماعية أخرى مختلفة (180 درجة) عن المناسبة الأولى، لا من حيث الشكل ولا المضمون.

فالداعي موظف كبير ومحترم، والمدعوون كان أكثرهم من علماء الدين والعلم والأخلاق الحميدة، والمجلس كبير وممتلئ وتعجّ به روائح العود والدخون، وكان الحوار والمناقشات الرزينة كلها تدور حول مواضيع التاريخ والفقه والسلف الصالح.

ودخل علينا اثنان يقدمان لنا القهوة العربية، كان أحدهما رجلا طويلا عريضاً له شنب كبير يقف عليه الصقر، وما أن قدم أول فنجال للرجل المتصدّر بالمجلس، وإذا بتليفونه الموضوع بجيب ثوبه يصدح بصوت مرتفع بأغنية (بوس الواوا).. ارتبك المسكين ولم يعرف كيف يتصرف في هذا الموقف الحرج، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يغلقه لأن الدّلة في يساره والفناجيل في يمينه، وانقطع حديث الجميع، فيما استمر المتصل باتصاله والأغنية تلعلع، وإذا بأحد المشايخ ينتفض في مكانه وعلامات الغضب ظاهرة على محياه، فقال متسائلا باحتجاج: ما هذا؟!

فما كان مني إلاّ أن أتلقّف وأقول له: إنها هيفاء وهبي طال عمرك.

ويا ليتني ما تكلمت، لأن النظرات كلها توجهت ناحيتي بما يشبه الازدراء.

[email protected]