لقاء دمشق: الخلفيات والتوقعات

TT

وصل إلى دمشق يوم الأربعاء كُلٌّ من الرئيس الفرنسي ساركوزي، ورئيس الوزراء التركي أردوغان، وأمير قطر الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني. والسببان المعلنان للزيارة غير العادية هما : المفاوضات مع إسرائيل وضرورة استمرارها، وإيقاف إمداد حزب الله بالسلاح من طريق سورية، وربما التوقف عن إيواء المقاتلين الفلسطينيين. ويضيفُ بعض المراقبين أنّ الأتراك والقَطَريين قد يُثيرون مسألة العلاقات مع لبنان، ويطالبون بتحسينها بعد زيارة رئيس الجمهورية إلى دمشق، والموافقة على العلاقات الدبلوماسية.

والواقع أنّ أماراتٍ ظهرت قبل شهر توحي بأنّ المفاوضات بين الإسرائيليين والسوريين ليست على ما يُرام، على العكس من تصريحاتٍ سابقة. فقد عقد الفريقان أربع جولات بتركيا، في تفاوض غير مباشر. وفي كلّ مرة كان الطرفان يصرّحان بأنّ المحادثات مفيدة وتتقدم. وحده الاجتماع الأخير خرج منه الطرفان، والطرف الإسرائيلي على الخصوص، على غير ما يُرام. السوريون قالوا بداية إنه تحقق تقدم. لكن الأسد في رحلاته إلى باريس وأنقرة، شكا من أنّ الإسرائيليين ليست لديهم النية والقرار السياسي في الانسحاب؛ بسبب ضعف الحكومة الإسرائيلية وقد يكونون ذاهبين لانتخابات مبكرة. ثم انهم يجادلون كثيراً في المياه، وفي المنتجعات السياحية. وقد بدأوا يتحدثون من جديد عن ضمانات لأمنهم من طريق المراقبة في جبل الشيخ، ومن طريق أن لا تدخل سورية في سباق تسلُّح، قد يؤدي إلى ردود أفعالٍ إسرائيلية لا تُحمدُ عُقْباها. ومنهم من يتحدث عن «التطبيع» وكيف سيبدو بصورة متشككة، رغم أن ذلك سابق لأوانه بكثير.

أما الإسرائيليون فيتحدثون عمّا حول المفاوضات، وليس في المفاوضات نفسها. يقولون إن موضوع الخروج من الجولان محسومٌ، وإن تكن التفاصيل المدققة كثيرة ومنها الحدود والمياه. بيد أنّ الأهمَّ ما هو خارج الموضوع مثل سلاح حزب الله ودور سورية في إمداده. ومثل علاقة سورية بطهران ومعناها بالنسبة للدولة العبرية. ومثل المنظمات (الإرهابية!) الفلسطينية في حضن سورية وقلبها (الفصائل العشرة + حماس؟). ففي الوقت الذي يطالب فيه السوريون الإسرائيليين بانسحابات شاملة بدون شروط، باستثناء معاهدة السلام وممارسة العلاقات الدبلوماسية، يجد الإسرائيليون أنهم سيُعطون الكثير، ولن تصبح سورية صديقة لهم إذا بقي الأمر على هذا النحو. فهم سيخرجون من الجولان وعندهم 20 ألف مستوطن هم محتاجون لتدبير مساكن لهم بالداخل. وعندهم من جهة ثانية المياه التي سيفقدونها، أو هكذا يُقال، والمنشآت السياحية والصناعية. وهم ما يزالون يُشيدون بالموقع الاستراتيجي للجولان ولجبل الشيخ. وكلُّ هذا سيخسرونه، فلا أقلَّ من أن يكون التطبيع كاملاً، ولا أقلَّ من أن تتحول سورية بالفعل إلى المعسكر الغربي، وَتَدَعَ العلاقات مع طهران والعلاقات مع حزب الله، ومع المقاتلين الفلسطينيين الآخرين.

وهكذا فكلا الطرفين يريد الاطمئنان، وأكبر عناصر عدم الاطمئنان، أنه ليست هناك ضمانات أميركية أو مظلة أميركية، سورية محتاجة إليها أكثر من إسرائيل. ويعلم الإسرائيليون أنّ النظام السوري إنما كان يجمع الأوراق الإيرانية والفلسطينية واللبنانية، من أجل الاستقواء بها في الداخل، ومن أجل أن يظلَّ مُدَّعياً الرهانَ بها على استعادة الجولان. بيد أنّ أهمَّ أسباب بقائه بعد الحرب الباردة، كان الرضا الأميركي، والرضا الإسرائيلي. وفي حين زال الرضا الأميركي عنه بعد العام 2000؛ فإنّ الرضا الإسرائيلي ما يزال حاضراً، والإسرائيليون يقولون للأميركيين إنّ هذا النظام يمكن أن تخلُفَهُ الفوضى، ويمكن أن يخلُفَهُ الأُصوليون؛ ولا مصلحة لإسرائيل ولا لأميركا في الإمكانيتين.

وتحمل الأتراك منذ حوالي العامين، عبء إعادة التواصل بين إسرائيل وسورية، بعد أن أطلعوا الأميركيين. والإسرائيليون والأميركيون ظلُّوا متشككين إلى حين اللقاء الأول بين الوفدين في تركيا. واتجاه سورية للإعلان عن ذلك لطمأنة الإسرائيليين والأميركيين. لكنّ الأميركيين كانوا يفضّلون التريُّث وهذا ما قالوه للإسرائيليين والأتراك، وحجة الأميركيين أنّ على سورية تغيير سلوكها في لبنان وفلسطين والعراق، كما أنّ عليها أن تحسِّنَ سجلَّها في مجال حقوق الإنسان بالداخل. وقبل ذلك وبعده لا بد من وقف التعامُل مع حزب الله، ومع المقاتلين الفلسطينيين.

وهكذا فإنّ الأتراك، رغم حجمهم المعروف، عانوا منذ البادية من السلبية الأميركية، لكنهم عانوا أيضاً من موقف العرب الكبار من النظام السوري، وبخاصة المملكة العربية السعودية، ومصر. فالسعوديون والمصريون قطعوا الاتصال بسورية منذ مؤتمر القمة العربي بدمشق، احتجاجاً على الموقف السوري من لبنان والاستقرار فيه، والذي يتهدده السوريون (الاضطرابات بطرابلس)، ويتهدده الإيرانيون من خلال حزب الله.

وإذا كان الأميركيون، والعرب الكبار، لا يعتبرون النظام السوري أهلاً للثقة، وإن تباينت الأسباب؛ فإنّ النظام نفسه يتعرض أيضاً لضغوط من طهران بسبب اشتداد التجاذب على الملف النووي بين إيران والمجتمع الدولي. فإيران تستخدم أوراقها في لبنان وفلسطين بشكلٍ مباشر ومتكرر. وهي لا تستطيع عمل ذلك بسلاسة بدون تعاوُن النظام السوري، كما جرى عليه الأمر خلال أكثر من عقدين. ولذا فإنّ رهان إيران هو مَنعُ التحول السوري باتجاه تركيا وإسرائيل ولو لستة أشهُر، لمعرفة الإدارة الأميركية الجديدة، ولاختبار نوايا إسرائيل بما يتعلق بالنووي الإيراني، أو حزب الله؟

الواقعُ إذن أنّ النظام السوريَّ إنما انفتح على إسرائيل من طريق تركيا، لأنها يمكن أن تشكّل له مظلّة بديلة للمظلة الإيرانية. فهي نظامٌ سُنّي وما عاد للنظام السوري دور شيعي كالذي كان عليه بالعراق ولبنان أيام الرئيس حافظ الأسد، ولديها المياه والكهرباء التي تحتاجها سورية. وشمال سورية ينهض على وقع الاستثمارات التركية. والجيش التركي قويٌّ وأطلسي. وهكذا فتركيا كلها ميزات، وإذا أضيفت إليها إسرائيل، فسيُعطي النظام السوري فكرةً عن نفسه أنه غيَّر سياساته، وصار همُّه استعادة الجولان لا غير، وهو لا يريد التدخل في العراق أو فلسطين أو.. لبنان!

بعد الجولة الرابعة من المحادثات بين الإسرائيليين والسوريين، بوساطة تركية، ظهرت الشكوى كما سبق القول ومن الطرفين. أولمرت وباراك ذهبا إلى وشنطن، وبشار الأسد ذهب إلى فرنسا وطهران وتركيا، وأخيراً إلى روسيا. والذهاب إلى طهران مفهوم وهو لذّر الرماد في العيون من الطرفين. أمّا الدول الأخرى ففيها أصدقاؤه الجدد. لكنّ روسيا قصة أُخرى تماماً تشي بعدم اطمئنان الأسد لأحدٍ أو لشيء. فقد مضى إلى هناك بعد واقعة جورجيا، ليقول تارةً إنه مستعد للتحول إلى قاعدة روسية، وطوراً أنه يريد صواريخ دفاعية ضد إسرائيل!

إنّ هذا القلق والاضطراب اللذين أظهرهما الأسد، دفعا الأتراك والفرنسيين والقطريين (أصدقاء الأسد القُدامى)، وبعد التشاور مع بوش (أو ماكين؟) للمجيء إلى سورية لإقناع الأسد بالاستمرار في التفاوُض مع إسرائيل، والمزيد من الابتعاد عن طهران، وعن «الإرهاب». وستُحاولُ هذا الأطراف أيضاً الضغط باتجاه تحسين العلاقة بين سورية والعرب الكبار. فالمطلوب «سدُّ الفراغ» في هذه الأشهر الستة التي تغيبُ فيها الإدارة الأميركية بشقَّيها القديم (بوش)، والجديد. وهي شهورٌ لا يكفي فيها القول إنّ الجمود سيسود فيها، فقد يؤدي الجمود إلى حروب صغيرة أو حرب كبيرة.