السياسة عبر الدين

TT

يلاحظ المفكر المغربي المعروف عبد الله العروي في كتابه الذي صدر مؤخرا بعنوان «السنة والإصلاح» أن التقليد التاريخي الذي ساد في الإسلام الوسيط يقوم على تحويل المعضلات السياسية إلى إشكالات فقهية وكلامية للهروب من حسمها وللتغلب على المعارضات المناوئة.

يوضح العروي هذه الفكرة بقوله: «كلما عرضت معضلة سياسية شائكة، فإنها تحول في الحين الى مسألة فقهية، ثم في مرحلة لاحقة تفرغ في قالب كلامي، وفي مرحلة ثالثة، بعد إخضاعها لتعريفات منطقية كثيرة، تحال على الفلاسفة. بهذه الطريقة اللبقة يتم التخلص منها نهائيا بعد فترة تطول أو تقصر».

ليس من همنا الوقوف عند هذه الملاحظة الثاقبة في سياقها التراثي البعيد، وإنما سنكتفي في هذا الحيز بضبط بعض آثارها في الحالة الراهنة، حيث يبرز العامل الديني رهانا أساسيا من رهانات الحالة السياسية العربية.

فمن نافلة القول إن الإسلام يشكل أحد المقومات الرئيسية لشرعية الحكم في مختلف البلدان العربية، وليس بعضها فقط كما يظن عادة، كما انه في قلب حركية المعارضة والاحتجاج التي تهيمن عليها الحركات المدعوة بجماعات الإسلام السياسي.

وما يجب التنبيه اليه هنا هو أن هذه المعادلة لا يمكن حصرها في الحوار الممجوج حول «علمانية» أو «إسلامية» الدولة. فلا مناص من الإقرار بأن النموذج العلماني للدولة غير قائم في الساحة العربية، إذا أخذنا التعريف الدقيق للعلمانية الذي يقدمه عالم الاجتماع الفرنسي المشهور مارسيل غوشيه الذي هو «الخروج من الدين في الشأن الجماعي المشترك».

فكل الدساتير العربية تقريبا تنص على أن الإسلام هو دين الدولة ومصدر التشريع (الوحيد أو الرئيسي) والدفاع عنه وتعليمه من واجبات القائمين على الأمر العام.

ومع ذلك فان هذه الدولة لا تنطبق عليها أي من مواصفات الدولة الدينية، ولا يمكن النظر اليها بصفتها امتدادا للدولة السلطانية الوسيطة، بل تقوم من حيث الشرعية ومنطق الفعل السياسي على العقلانية الحديثة في دائرتيها الدستورية ـ القانونية والمؤسسية ـ البيروقراطية.

وإذا تمعنا النظر في الخطاب الاحتجاجي للحركات الإسلامية نلاحظ أن القدح في إسلامية الدولة يتلخص عادة في المسائل التشريعية المتعلقة بالأحكام الجنائية والنظم الاقتصادية والمالية، انسجاما مع تصور ساد في كتابات الجيل الأول من مدرسة «الإخوان المسلمين» المصرية يحصر هوية الدولة في رؤيتها التشريعية. ويتعلق الأمر بتصور غريب عن المرجعية الفقهية التقليدية، يعود الى المقاربات الغربية الحديثة التي استبدلت مرجعية الدين بمرجعية القانون بصفته التعبير عن الهوية الجماعية المشتركة. فالجانب القانوني والتشريعي في الإسلام من الفروع والجزئيات ولا يتعلق بأصول العقيدة والإيمان كما اجمع فقهاء السنة، والمدار فيه مبحث القيم والآداب، لا مبحث الهوية والشرعية.

وكما تميل الدولة الى توظيف المعطى الديني واستتباع «المؤسسة الدينية» تتجه الحركات الاحتجاجية الى استخدام القاموس الديني والرمزية الروحية في خطابها التحريضي المناوئ لأنظمة الحكم القائمة، مما يحول الصدام الى صراع ديني وهمي يحجب الرهانات الحقيقية للمواجهة، التي هي إشكالات المشاركة الشعبية وبناء الدولة وتسيير الشأن العام.

ففي مقابل خطاب التيارات الأصولية التي تستسهل التكفير بالرجوع الى الأدبيات الكلامية المتعلقة بالعقيدة، يرد فقهاء السلطة بالأحكام الفقهية المتعلقة بالفتنة وطاعة ولي الأمر، وفي بعض الأحيان يتحول الصدام بين الدولة المدافعة عن «عقيدة أهل السنة والجماعة» و«مذهب دار الهجرة» في مواجهة المجموعات التكفيرية المستندة «للسلفيات الحشوية» (كما حدث في موريتانيا ايام حكم الرئيس ولد الطايع) أو بين «مذهب آل البيت» و«الخوارج الجدد» (كما تعلن حكومة العراق الحالية).

إن هذه الظاهرة تؤكد صحة ملاحظة العروي وصلاحيتها لضبط الرهان الديني ـ السياسي القائم حاليا في الساحة العربية. والمفارقة الملاحظة هنا هي أن أنظمة الحكم تنساق من دون وعي الى فخ المجموعات الأصولية في إسقاطها الأبعاد الدينية على الإشكالات السياسية في الوقت الذي تصرح فيه برفضها الصارم للخلط بين الدين والسياسة.

إن الحل لا يكون في خيار عدمي بين إقصاء مستحيل للدين من الشأن العام أو إسقاط الإشكالات السياسية والمجتمعية عليه ومن ثم اتخاذه أرضية آيديولوجية للمواجهة، بل يبدأ بفصل الإشكالات العقدية والمباحث الكلامية عن حسابات الساسة وصراعاتهم التي يجب أن تبعد عن الدين الذي هو الرأسمال الرمزي الثابت المشترك بين أفراد الأمة.