فصل الأخبار العبثية مختلف هذا العام

TT

فصل الصيف يلفظ انفاسه الاخيرة، وان كان في لندن لم يغادر فراش «المطر» هذا العام باستثناء بضعة ايام مشمسة، ولا اريد ان احرم القراء من المقال السنوي عن موسم الاخبار العبثية Silly season .

فصل الصيف هو موسم الجفاف في شارع الصحافة، مع اجازة البرلمان ـ وهو الحكومة وقرية وستمنستر هي قلب النشاط السياسي ـ ولابد من اي اخبار لملء الصفحات.

لم تظهر اطباق طائرة او تزورنا مخلوقات من كواكب اخرى هذا الصيف، كما لم تظهر ادلة تؤكد ضلوع جهات رسمية في مصرع الاميرة ديانا، ولا لمح احدهم الفيس بريسلي يقود كاديلاك قديمة او اللورد لوكان الذي اختفى بعد مصرع مربية اطفاله قبل ثلاثة عقود.

صيف 2008 سيدخل غينيس للارقام القياسية لبلوغ الاخبار السخيفة اقلها في تاريخ فليت ستريت. فحتى الصحف الجادة كالتايمز والتلغراف والاندبدنت، كانت في الماضي تنشر اخبارا صيفية كباروكة الشعر المستعار لنائب رئيس الوزراء السابق جون بريسكوت، وصور المليونير الممثل مايكل دوغلاس في سيارة سكودا (رمز الفقر في بريطانيا)، والصن (الاولى في التوزيع بثلاثة ملايين يوميا) نشرت قبل عامين صورة اصطفاف نادر لمجموعات نجوم تشبه وجه فيكتور ميلدرو، الشخصية التلفزيونية الفكاهية الشهيرة او «غضبان افندي»، الحانق دائما على فساد ذوق المجتمع.

أطرف قصص موسم العبث كانت هدفا احرزه داوننج ستريت ـ مكتب رئيس الوزراء ـ في مرماه السياسي عام 2005، عندما طلب منا كصحفيين عدم الافصاح عن مكان قضاء توني بلير اجازته لدواعي امنية (هناك اتفاق جنتلمان مع مجموعة «اللوبي» الصحفيين البرلمانيين، باحترام الخصوصية وعدم نشر اخبار وصور اطفال الوزراء ومراعاة ظروف الامن، حيث نعرف تحركات رئيس الوزارة مقدما فنسبقه للعراق او افغانستان مثلا). واحترمنا الاتفاق مع داوننج ستريت، ليفاجئنا المكتب الصحفي بنشر صور بلير في قارب في البحر الكاريبي!

اخبار هذا الموسم كسرت القاعدة (القاعدة الصحفية وليست المنظمة الارهابية المعروفة التي يمتلك اغلبية اسهمها اسامة بن لادن وايمن الظواهري) بعد تآمر اولمبياد الصين مع الغاء الاخبار العادية ـ اجازتها السنوية، فقض مضاجعنا الكساد الاقتصادي وغلو السلع الاساسية، وانهيار اسعار العقار والجنيه الاسترليني وحادثة مطار مدريد وغزو روسيا لجورجيا وفيضانات الهند واعصار غوستاف.

قضى رئيس الوزراء جوردون براون اجازته القصيرة في البلاد ولم يسافر للخارج كعادة مايزيد على خمسة ملايين من رعايا جلالة الملكة كل عام، بقي نصفهم هذا الصيف في البلاد لافلاسهم .

وبمزايدة سياسية، قرر زعيم المعارضة المحافظ دافيد كاميرون التصييف في احد الشواطئ البريطانية الممطرة. تحول الرجلان الى هدف الصحفيين وعدساتهم Zoom lenses البعيدة المدى المصوبة نحويهما محاولة العثور على اخبار تلائم الموسم.

كاميرون، بمكر سياسي معاصر، قرر التمرد على الصورة المسبقة عن الزعيم المحافظ بالظهور بالشورت والتيشيرت مع زوجته سامنثا تداعب اقدامهم الحافية أمواج الشاطئ .

رئيس الوزراء براون، اكد تسمية مجلة Private Eye (المخبر الخصوصي) الساخرة له بـ«الرفيق الاول القائد الاعلى» تشبها بستالين لصرامته وجديته، بذهابه للبلاج بالبذلة والكرافت.

ولا أذكر مشهدا يماثله الا في صباي في الاسكندرية المحافظة جدا ايام الزمن المحترم، للمرحوم جدي ببدلته الانيقة ـ من الكتان الابيض تفصيل الترزي الايطالي الاسطى لويجي ادريانو ـ والقبعة البنما طراز «فيدورا» على بلاج المندرة في الاسكندرية؛ فناظر المدرسة المحترم يحسب احتمال ان يلمحه احد تلاميذه او معلمي مدرسته متلبسا بجرم الظهور بقميص مفتوح او مسترخيا متمتعا بنسيم الشاطئ، فهوة 58 عاما تفصل بين مفهومي المربي الفاضل، وزعيم المعارضة البريطانية عن «الاسترخاء» على البلاج.

فقبل افساد انقلاب 1952 للذوق والاتيكيت لم يكن أي افندي يحترم نفسه في مصر يجرؤ على الظهور بلا بدلة وكرافت او حاسر الرأس (الطربوش شتاء والقبعة البنما صيفا) مهما بلغت حرارة جو اغسطس.

بلاجات سيدي بشر والمندرة والعصافرة كانت وقتها مرتدى كبار المصطافين البالغي الاناقة من زعماء الامة المصرية كنجيب الهلالي باشا ومصطفى النحاس باشا وفؤاد سراج الدين باشا.

تناقض نصفي الصورة على بلاجات الاسكندرية المحافظة بين نصف يحتله الأفندية والبهوات تخنقهم البدلات الكتانية والكرافتات والقبعات، ممسكين منشات الذباب بمقابض عاجية، يدخنون السيجار، ويقاومون حر اغسطس والمناقشات السياسية بتناول المرطبات؛ مع النصف الناعم للهوانم والمدموزيلات بالمايوهات الزاهية يلعبن كرة المضرب او يلهين في مياه المتوسط.

ومثل فوز هوانم الزمن الجميل في الاسكندرية بزبد أمواج البحر المتوسط الفضية ترطب أجسامهن، كان الفائز في صيف بريطانيا 2008 سامنثا هانم، زوجة زعيم المعارضة الارستقراطية الاصل.

فهي احسن مظهرا وأمشق قواما، من سارة براون، المسكينة مرتين: مرة بزواجها من رجل لا تعرف الابتسامة لوجهه سبيلا، تضاعف ثقل ظله مقارنة بخفة دم وسرعة بديهة سابقه توني بلير في تعامله مع الصحفيين؛ ومرة لان مقارنتها غير العادلة بعدسات المصورين مع المدام كاميرون جاءت اسابيع قليلة بعد مقارنتها بالموديل الطروب المدام كارلا ساركوزي، جميلة الوجه فارهة القوام المغلف في احدث الازياء واكثرها جاذبية.

طبعا كانت هناك اخبار موسمية متوقعة كظهور سمكة القرش الابيض المفترسة على بلاجات مقاطة ديفون؛ واخرى جديدة كصياد جذب بصنارته سمكة قرش من الماء الى القارب، فعضت يده وهو يمسكها لعدسة المصور؛ ولص انحشرت قدمه في النافذة التي تسلل منها وظل فرجة المارة لاربع ساعات حتى عاد صاحب المنزل ليخلصه من فخ النافذة الى «بوكسفورد» البوليس الذي لم يصدق روايته كفاعل خير «يطارد لصا حقيقيا»؛ ومريضة بدينة لجأت الاسعاف للمطافي لنزع سقف البيت واخراجها بونش ضخم لتعذر اخراجها من الباب؛ ودب قطبي سبح باسرته وسط امواج المحيط بعد ذوبان ملجئهم جزيرة الثلج العائم التي انفصلت عن جليد الشمال بفعل ظاهرة الاحتباس الحراري (فالصحافة الشعبية تواكب موضة القلق على البيئة السائدة).

لكن يبدو ان اخبار موسم العبث تواكب تناقص شعبية حزب العمال الحاكم لسوء حظي. فكجيل افندية صباي ظللت حبيس البدلة والكرافت سجينا في عرق لندن ولم اشهد للبلاج، او مصيف من اي نوع، ومضة واحدة طوال الصيف القصير، تنفيذا لعقوبة فيضان من الاخبار المكفهرة الوجه نهارا، ونكد الزوجة ليلا تداهمني بمكالمة تليفونية في مخدعي لتفتش عن «سر» تخلفي عن اداء فريضة حمل متاعها والاولاد في الاجازة.