المغرب: بلد المائة مهرجان

TT

كثيرا ما يلام الشباب المغربي اليوم على نظرته الكفكاوية للحياة، فيبدو شبابا دائم الانتقاد والتذمر والشكوى، من أوضاع اجتماعية وسياسية وثقافية لا تروقه، ومن أفكار متوارثة تكبله، ومن حكومات لا تسعفه في حل أزماته؛ هي، إذن، فورة شباب لا تنم عن تشاؤم، بقدر ما تكشف عن حب خفي ومتجذر لهذه الحياة، بشكل يدفعه إلى الحلم بالأفضل والأجمل لها.

هو شباب يتذمر أحيانا، يلتهم بنهم جرائد ومجلات محلية تشفي غليله الانتقادي، وتعكس ذهنيته الاحتجاجية التي لا تستكين للرضى والهدوء، لكن هذا لا يعني أنه يتسم بميولات تراجيدية، بل هو يحلم أيضا بالترويح والترفيه عن نفسه كأي كائن اجتماعي، يحلم بفرحة حقيقية يعيشها في كل مناحي الحياة، ويستشفها في كل ما حوله، وليس مجرد فرحة عابرة، يحلم بفرحة عميقة تزلزل دواخله، وليس مجرد متعة بصرية فلكلورية تشوش على بصره، من دون أن تتسرب إلى أغواره.

هو شباب يطمح إلى التغيير، والتعبير عن هذا الأمر بالكلمة والإيقاع والحركات، بصدق وعمق وتلقائية، وبدون أية خلفيات إيديولوجية أو سياسوية، سواء في مهرجانات، أو في إبداعات فنية، موسيقية أو سينمائية أو مسرحية أو تشكيلية.

لكن هل ما يقدم له من عروض فنية وإبداعية وثقافية تعبر بشكل جلي عن وجدانه، وتعكس تفكيره ومخياله الجماعي، وترسخ علاقته بذاكرته وتراثه ونسقه الثقافي والحضاري، أو أنها لا تعدو أن تكون مجرد هدهدة لمشاعر ثائرة، وتنويم لأفكار متمردة مشاغبة؟

شيء جميل أن تشع مظاهر البهجة والحياة في كل أرجاء الوطن، وخصوصا مع حلول فصل الصيف، مدن كثيرة تلمع بنجوم ليالي أغسطس، ونجوم الفن والثقافة والسينما، وبوجوه برونزية نضرة، ترقص على إيقاعات متباينة، ولا تجد الخلاص من واقعها سوى بالرقص والغناء والصعود إلى الفضاء الرحب لتعانق نجمة عابرة، أو ربما الاحتراق والفناء فيها، لنسيان كدر الوقت والتطهير من رجس الهموم اليومية. مهرجانات تغلب عليها الموسيقى والغناء الشعبي، استنادا لمقولة «الجمهور عايز كده»، على حد تعبير الإخوة المصريين. ولما كان من الصعب وضع كل شرائح المجتمع في كفة واحدة، باعتبار أن هناك فئات يستهويها هذا النوع من المهرجانات، في حين أن هناك فئات أخرى نخبوية تستهجنها، فإنه أيضا يبدو من الصعب وضع كل المهرجانات في كفة واحدة، ومن الحيف أيضا أن نعمم، ونرغي، ونصرخ في وجه كل المهرجانات بدون استثناء، بحجة أنها تشجع الرداءة والميوعة، أو تسيح الثقافة، وتدغدغ مشاعر السياح، أو أنها تصرف الملايين، وتستورد نماذج غربية غريبة عنا، وتعلي من شأن الفن الأجنبي، وتقصي الفن المحلي.

صحيح أن هناك مهرجانات أقيمت بالملايين، بشكل يعكس المفارقة التي يعيشها المغرب، ففي الوقت الذي يبسط فيه السجاد الأحمر لنجوم الهوليود في مهرجان مراكش السينمائي الدولي، يسحب بساط الدعة والحياة الهانئة من تحت أقدام أحياء ما زالت دور الصفيح جاثمة على قلوب سكانها. ورغم الأهمية التي يحظى بها هذا المهرجان، من حيث إشعاعه الفني والسياحي العالمي، فقد وجهت له الكثير من الانتقادات.

وصحيح أن هناك مهرجانات راهنت على أنماط موسيقية غريبة، دخيلة، وبعيدة عن هويتنا وخصوصيتنا وقيمنا الحضارية والثقافية، كمهرجان الجاز بالرباط، ومهرجان الهيب الهوب والبوليفار بالدار البيضاء، ومهرجانات أخرى تنظم أيضا لدغدغة مشاعر السياح، وتعمل على تسييح الثقافة والفن، كمهرجان الحمير، ومهرجان كناوة بالصويرة، وصحيح أن هناك مهرجانات استقدمت فنانين ومطربين أجانب، وهمشت مواهب وطاقات إبداعية محلية، تلك التي طالما اشتكت من هذا الحيف والإقصاء، وتعده موتا للفن المحلي، رغم أن هذا الأخير يعاني سلفا من حالة احتضار، ومن أزمة تواصل بينه وبين الجمهور.

وصحيح أن مظاهر الميوعة والابتذال ترافق بعض هذه المهرجانات، سواء في نوعية الأغاني التي تقدمها، أو في الجو العام الذي تقدم فيه، والذي لم تستنبته تلك المهرجانات، بقدر ما لازمته لزمن محدد، وخلقت فضاء عابرا له، وعوض أن نعلق ظاهرة المخدرات، وغيرها من الظواهر الآثمة على شجرة المهرجان، حري بنا أن نفكر بعمق في هذه الآفات الخطيرة المستشرية في مجتمعنا، من زاوية سوسيولوجية، كنتيجة حتمية لخلل اجتماعي وسياسي وثقافي عام، وأن لا نقف طويلا عند عتبة هذه النوعية من المهرجانات التي ستمضي وستزول، مثل تأثير المخدرات، دون أن يملأ ذلك الفراغ الروحي والنفسي، أو أن يترك تأثيرا إيجابيا يجعلنا نعيد التفكير فيما حولنا، بل سيحقق متعة عابرة زائلة تفتن على الفور، دون أن تلازم من يتعاطاها.

لكن في نفس الآن، هناك مهرجانات، وإن كانت نادرة، راهنت على النغم الشجي والأصيل، كمهرجان فاس للموسيقى الروحية، وإن كانت تصرف فيه، هو أيضا، أموال طائلة، لكن جودة هذا المهرجان ورقيه قد يشفعان لها عند المواطن المغربي، وحتى السائح الأجنبي، وكذلك مهرجان مراكش للموسيقى الشعبية، ومهرجان الطرب الغرناطي، ومهرجان أحواش، وأحيدوس، وعبيدات الرمى، ومهرجان موسيقى الصحراء؛ مهرجانات تعكس التنوع والغنى الثقافي المغربي. ومهرجانات سينمائية، تمثلت أفلامها سيرورة المجتمع المغربي بصدق ومهنية، من قبيل بعض المهرجانات الوطنية للسينما المغربية..

وهناك أيضا أقدم مهرجان ثقافي في المغرب، راهن على الثقافة والفن لخدمة التنمية المحلية، يتعلق الأمر، هنا، بـ«موسم أصيلة الثقافي الدولي السنوي». وتكمن أهمية هذا المهرجان في تجذره في تربة الثقافة المغربية منذ 1978 إلى اليوم، وهو يحتفل هذه السنة بذكراه الثلاثين، بما عرفته هذه العقود الثلاثة الماضية من منجزات، ثقافية وفنية وتنموية كبيرة، تعكس ما يمكن أن يقدمه الفن من أجل تنمية مدينة وتأهيلها، ثقافيا وفنيا وعمرانيا وسياحيا. وهو المهرجان الذي شكل، في الحقيقة، المرجع الأول لمهرجانات أخرى، ظهرت بعده، دون أن تتمكن من تقليده، أو من أن تتجاوزه، لكونها، وبكل بساطة، راهنت على التسطيح والميوعة، أكثر من اهتمامها بصناعة الذوق وتربية الوجدان وتحرير الفكر والفن. فيكفي أن نتأمل فقط هذا المسار الفكري والفني الذي شيده موسم أصيلة، على مدى ثلاثين سنة من الحضور والتأثير والانتشار، وما حظي به من عناية واهتمام محلي وعربي ودولي لافت، لكي يتبين لنا مدى الأهمية التي كان ومازال يحظى بها موسم أصيلة الثقافي الدولي، سواء من قبل شرائح المثقفين والمفكرين والكتاب والفنانين، من مختلف قارات المعمورة، أو من لدن كبار السياسيين ورجالات الدولة، ممن يحجون إلى أصيلة، لحضور دورات موسمها الثقافي، والمشاركة في فعالياته ومنتدياته، بشكل أضحى معه موسم أصيلة الثقافي بمثابة برلمان دولي للتحاور والتواصل والاختلاف، في فضاء من الحرية، والشفافية، والقبول بالرأي والرأي الآخر، وهو ما جعل منه اليوم تجربة فذة، أصبحت تقتدي بها بعض البلدان والمدن الأخرى، داخل المغرب وخارجه، وإن بدا أن موسم أصيلة الثقافي الدولي يبقى تجربة يصعب، إن لم أقل يستحيل تقليدها.

لكن هذه المهرجانات السابقة الذكر، على الرغم من هفواتها وكل الضجيج الذي يثار حولها، فهي تحمل في طياتها إشراقات انفراج اجتماعي واقتصادي لساكنة هذه المدينة أو تلك، التي تنتعش قطاعاتها الاقتصادية، ومهنها التقليدية، ومنتجاتها وتجارتها، وتطور بناها التحتية في فترة المهرجان، حتى تبدو المدينة بوجه مشرق أمام ضيوفها.

وحتى لو كان «الجمهور عايز كده»، فلا سبيل للانصياع لرغباته دائما والنزول عندها، بل يجب على وزارة الثقافة وعلى كل جمعيات المجتمع المدني، خصوصا تلك التي تهتم بالشأن الثقافي في بلادنا، أن تسمو بهذا الجمهور إلى عوالم الذوق والجمال، وتقدم له فنا راقيا، نابعا من تربته وعمقه الحضاري، وتميط اللثام له عن ذاكرته وتراثه الثقافي والفني، كي تفتح له متنفسا رحبا من تحت الحطام الجاثم، وتعيده إلى حضن وطنه بلطف وبهاء وسخاء، بعيدا عن كل صخب وعشوائية.

*شاعرة وكاتبة من المغرب

[email protected]