هاجس الضمانات

TT

المحرك الناظم للسياسة العراقية والمشكل لدولة ما بعد التغيير هو بايجاز شديد الضمانات. الضمانات جزء كبير من بواعثها مخاوف، والمخاوف تتمحور حول السلطة، فعلى مستوى الأطراف السياسية فانها لا تجد من ضمانة لها من السلطة الا بالاشتراك بها، لذا ضعف واضمحل بل وتعطل الجانب المعارض والمحاسب والرقيب حين حشر الجميع انفسهم بالسلطة لمنح انفسهم الضمانة بشقيها سواء بالاستفادة من ثمارها او لتطمين مخاوفهم منها.

أما المكونات العرقية والطائفية وايضاً الوحدات الادارية فان قصتها مع الضمانات هي الاوسع، فانها ظلت تتخوف من سلطة المركز وهي لا تريد ان تغيب عن الذاكرة ارث الدكتاتورية واستئثار المركز واهماله للاطراف وبقاء هذا المركز دائماً نقطة مغرية للصراع اذ ان من يملكه يخضع له الجميع بالتبع وتؤول اليه السلطة والثروة ويكون هو المتحكم بهما، لذلك فاريد ان يتم تصميم توزع السلطة لكي توفر ضمانة بأن لا يعود هذا الحال.

لنتجاهل الجواب الذي يرد على ذلك بان هذه الدكتاتورية اصبحت في ذمة التاريخ وان الظروف التي انتجتها لن تعود، وان العراق لن يحكم بدكتاتور جديد لاستحالة ان يلقى الرضا، والأهم ان من اسقط الدكتاتورية هو باق وهو الحائل الحقيقي دون عودتها. لكن مع ذلك اجتهد من اجل العمل على تقسيم وتوزيع السلطة واضعف المركز لمصلحة الاطراف، لو بقي هذا لجهة ممارسة السلطات والحكم والادارة، ربما لقبل، اذ انه كما اراد متبنوه ضمانة لهم بأن لا يحكموا من الاخر، وان يديروا امورهم، ويتجنبوا البيروقراطية غير المبررة، وان يحفزوا على التقدم وان يتنافسوا في مضاميره، طيب وجميل لو بقي في هذا الاطار، اذ يعزز هذا التوجه ان العالم الذي اخذ بنماذج الفيدراليات او اللامركزية نجح بذلك في حل كثير من مشكلاته .

ولكن من البديهي ان معيار المفاضلة في تبني هذا النظام السياسي او ذاك بأن يحقق اكبر قدر من النمو والاستقرار والتوزيع العادل والمرضي للمنافع، او بعبارة اخرى ان تكون كفة الايجابيات فيه راجحة على السلبيات، وهذا يتم من خلال استشرافه المخاطر وكوامن النزاع وان يتجنبها، اذ قديماً قالت القاعدة الفقهية ان دفع المضار مقدم على جلب المنافع .

أما هنا في الحالة العراقية فإنه لم تغلب هذه المعايير في اختيار النظام السياسي الملائم او اسلوب توزيع السلطة فحسب بل كانت ايضاً مدفوعة بهاجس الضمانات، حيث اخذ بالنظام الفيدرالي لتجربة قائمة وفسح هذا الحق لأقاليم للتشكل وايضاً منحت نفس الحقوق تقريباً لمن لا يريد ان ينظم او يكون جزءاً من اقليم بناءً على قاعدة المساواة.

المشكلة هنا تكمن ببعدين، ان النظم التي يراد لها الثبات لا تتأسس على طارئ او على ظروف استثنائية ولا على ارصدة المخاوف ولا ان يبقى فيها ماضيها حاكماً لمستقبلها، هذا من جهة ومن جهة اخرى فان الغريب اننا لسنا بحاجة الى استشراف المخاطر ومسببات النزاع في هذا النظام الذي نؤسس له وامكان وقوعها في المستقبل بل هي قائمة ونواجهها بشكل يومي وبشكل لم تعرفه النظم المناظرة، ومع ذلك يتم الاصرار على الاستمرار بنفس النهج .

المثال الجلي هو المشاكل والتوترات التي تحدث ما بين الحكومة المركزية واقليم كردستان، فالطرفان ايضاً هاجسهما الضمانات، الكرد يعملون على تجنب الاستبداد ثانية وعلى ادارة شؤونهم بأنفسهم، في حين ان الحكومة المركزية واجبها ضمانة وحدة العراق وتسيير شؤونه كدولة، ولكن التوترات تشي يومياً بصعوبة التوفيق بين هذين التوجهين، مثال ذلك مشكلة خانقين وهي الاحدث في المشهد والتي تأتت عن امتناع البيشمركة الكردية عن السماح لقوات الجيش العراقي بدخولها كونها كما ترى القيادة الكردية هناك انها منطقة امنة وقواتهم حمتها لسنين من الارهاب، في حين يرى الطرف الاخر من القوى المعترضة على وجودهم خارج اقليم كردستان انهم يثبتون بذلك امرا واقعا في المناطق المتنازع عليها تمهيداً لضمها لاقليم كردستان، وهذا يشمل اجزاء من محافظة ديالى في الشرق وصلاح الدين في شمال وسط العراق والموصل في شماله.

اللافت هنا مسألتان، الاولى ان ازمة منع البيشمركة للقوات الحكومية من دخول هذا القضاء والذي من المرجح ان تتكرر لاحقاً في اماكن اخرى من مناطق التماس او في اي نقطة في حدود الاقليم العراقي هي تمثل الغاء وابطالا لمبدأ السيادة، والذي هو ركن من الاركان الاربعة التي لا تقوم بدونها اي دولة، والثانية في استخدام مصطلح المناطق المتنازع عليها، أرجو الانتباه اننا داخل دولة يفترض انها واحدة، وليس الحديث عن دول بينها صراعات حدود، في حين ان المتحضر من الدول غادر بؤر الصراع هذه، فاوربا التي تقاتلت في حربين كونيتين على الحدود واعطت عشرات الملايين من الضحايا هي اليوم تلغي هذه الحدود. المشكلة في هذا النمط من الازمات أنه سيفتح باب النزاع على الحدود بين المحافظات والاقاليم لاحقاً والذي سيعم غالبيتها تقريباً، هذا على الارض، اما اذا نزلنا تحتها فسنتجه الى نمط اخر من الازمات هو حول حقول الثروة النفطية والموارد، اذ انه بالحتم سيكون بعضها على «حدود» المحافظات والاقاليم وبعضها حقول ممتدة ومخترقة لهذه الحدود وهنا سيكون النفط محفز لصراعات دائمة، وصراعات اخرى ايضاً ستأتي هذه المرة بعد عصب الاقتصاد على عصب الحياة «المياه»، اذ سيتحكم كل طرف بالمياه التي عنده والجارية في ارضه، في حين ان افريقيا والتي نسميها بتعال مجاهل افريقيا، فإن منظمة الوحدة الافريقية فيها اتخذت قراراً بعد الاستقلال بعدم النظر بنزاعات الحدود وتجميد الحدود القائمة والاعتراف بها، ادراكاً بان ذلك اذا انفتح سيدخلها بصراعات وحروب لا نهاية لها.

قارة تلغي الحدود وقارة اخرى تجمد النظر فيها ونحن الناهضون من بين الدمار لا نستطيع الاصطبار حتى نشرع بفتح نزاعات حدود داخل بلد نتغنى بأنه واحد.

السؤال.. هل ندرك الى أين نحن متجهون؟؟