ما بين ماضيه وآتيه

TT

ثمة مشكلة كبرى مع الحاضر. وصراع دائم معه. ورفض له. ثمة ميل غريب في الإنسان لأن يعيش في الماضي أو يحلم بالعيش في المستقبل. كلاهما، بالنسبة إليه، أفضل أو أجمل من حاضره، المستقبل المجهول بكل احتمالاته، والماضي المعلوم بكل نواقصه أو عذاباته. لا أعرف ما هو سبب طغيان هذه النزعة البشرية، لكننا نعرف أنها جزء من حياتنا جميعا، في باريس وفي السويد وفي أدغال الأمازون.

قبل سنوات، اتفقنا مع أصدقاء وزملاء، على إنشاء دار للنشر. ورحنا نبحث عن اسم لم يسبقنا إليه أحد، وبالتالي ليس مسجلا في وزارة الإعلام. وقلت لهم، لا تعذبوا أنفسكم ولا تكبدوها المشقة. أنا واثق أن أحدا لم يختر من قبل اسم «دار الحاضر». وكان ذلك صحيحا بنسبة ألف في المائة على الأقل. لا تحاول البحث عن شيء تحت عناوين مثل «حنين» أو «المستقبل» في الغناء أو في السينما لأن الجميع سبقك إليها. لا تبحث تحت عنوان ذكرى أو ذكريات أو يتذكرون. لا تبحث عن معرض يحمل عنوان «صور من الحاضر» لأن لا وجود له. كل الغاليريهات تقدم «صورا من الماضي». كل الأفلام تمجد وتجمل صورة الماضي، بما فيها صور الحروب والدمار والكوارث. لماذا؟ لا أدري. هل هو الشعور بأننا لا نملك الحاضر وأنه مجرد لحظات تذوب بين أصابعنا؟ لكن ماذا بقي لنا من الماضي ولم يذب؟ وكم يمكننا أن نملك من المستقبل ويبقى؟

لذلك نحن في حالة هرب دائم. نهاجر في القارات ونبني سفنا إلى المريخ ومثل الأطفال نفرح عندما يقال لنا إن ثمة مياها على المريخ وأن بقعة مائية صورت على عطارد، مما قد يعني أنه بعد مليون عام يمكننا السفر إلى هناك. لكن ماذا تشكو رحلة إلى جنوب إيطاليا يوم الاثنين المقبل، أو إلى جنوب إسبانيا، أو إلى جنوب الإكوادور؟

الإنسان ليس حيوانا ناطقا بل حيوان حالم. مخلوق يعبر بين ماضيه وغده دون أن يدرك مسافة الجسر، وأن الحياة في نهاية المطاف، هي فقط مسافة العبور. ويستحيل عليه العودة ثانية واحدة إلى الوراء وأن يغير ثانية واحدة في الطرف المقبل. أضحك عندما أقرأ عن بناء أطول جسر في العالم. مرة في الصين ومرة في سان فرانسيسكو. مرة فوق الأطلسي ومرة فوق الهادئ. إن أطول جسر في العالم هو حكاية الحياة التي يعبرها الفرد وهو يحلم، دائما، بعالم غير عالمه. يحنّ بلا جدوى إلى ماضيه ويتشوق بلا قرار إلى آتيه.