العالم تغير والحرب الباردة لن تعود

TT

دول الاتحاد الاوروبي المجتمعة، في بروكسل، لن «تكسر الجرة» مع روسيا. لن تفرض عقوبات ولن توجه إنذارا ولن تقطع العلاقات الدبلوماسية. ولكنها، أيضا، لا يمكنها السكوت عما حدث في «أبخازيا» و«أوسيتيا»، ولا أن تدير ظهرها لما حدث ويحدث في جورجيا، وفي منطقة القفقاز، وما قد يحدث، غدا، في أوكرانيا وبولوندا، ودول أوروبا الشرقية الشيوعية سابقا، المنجذبة الى الغرب. وربما، يوما ما، في دول آسيا الوسطى الإسلامية والراقدة فوق أوقيانوس من النفط والغاز. إن الاتحاد الاوروبي، الذي يرأس دورته هذه السنة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، سيلعب دور الوسيط بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، من جهة، وبين جورجيا وروسيا، من جهة أخرى.. وفي انتظار نجاح أو فشل هذه الوساطة، لن تخرج القوات الروسية من المقاطعتين المختلف عليهما. وقد يستمر هذا الوضع سنوات.

لماذا حدث هذا الزلزال السياسي ـ العسكري الصغير في جورجيا؟ هل كان نتيجة تصاعد التوتر بين موسكو وواشنطن، منذ أن قررت هذه الأخيرة إقامة الدرع الصاروخي في بولندا وشرقي أوروبا؟ أم كان نتيجة دعم واشنطن والاتحاد الأوروبي لاستقلال كوسوفو؟ أم أن هذا التصادم بين «الشرق الروسي ـ السلافي» و«الغرب الأميركي ـ الاوروبي»، كان محتما، لأسباب استراتيجية عسكرية واقتصادية؟ أم أن «العهد الجديد» في موسكو، أراد أن يفهم الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، بأنه ضاق ذرعا بتحدياتهما المستمرة له في البلقان وفي شرقي أوروبا وفي الدول التي كانت سابقا تابعة للاتحاد السوفياتي، والواقعة على حدوده؟

معظم المراقبين متفقون على أن الرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي، ارتكب خطأ فادحا، عندما أراد حل مشكلتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بالقوة العسكرية. كما أخطأ الذين «شجعوه» على اعتماد هذا الأسلوب، وزودوا قواته ببعض الأسلحة (إسرائيل). من هنا يمكن القول بأن ما حدث في جورجيا، وإن كان اكبر «من زوبعة في فنجان»، لن يتبعه تصعيد سياسي أو عسكري، وان الأمر الراهن، اليوم، أي «انسحاب /عدم انسحاب» القوات الروسية، أو «انفصال /عدم انفصال»، أوسيتيا وأبخازيا، سوف يستمر طويلا. بعد حرب الخليج الأولى عام 1991، وتفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط الآيديولوجية الشيوعية، ألقى الرئيس الأميركي، جورج بوش الأب، خطابا تحدث فيه عن «قيام نظام عالمي جديد». وترجمت هذه العبارة بأنها بداية عهد تفرد الولايات المتحدة بدور الدولة الكبرى الوحيدة، المهيمنة على العالم، عسكريا وسياسيا واقتصاديا. ولقد نجحت، فعلا والى حد بعيد، في لعب هذا الدور. إلا أن الأمور والأوضاع تغيرت، منذ التسعينات. فروسيا التي كانت، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي والاقتصاد الشيوعي، بحاجة الى مساعدة الولايات المتحدة والغرب، باتت، اليوم، في غنى عن هذه المساعدة. وممسكة بسلاح اقتصادي هام هو النفط والغاز اللذين تضخهما الى الدول الأوروبية. والصين والهند باتتا دولتين كبيرتين مرشحتين لمنافسة الولايات المتحدة.

والسياسة التي اتبعها الرئيس بوش الابن، بعد 11 سبتمبر، دوليا وداخليا، أرهقت الاقتصاد الأميركي، من جهة، ووترت علاقات واشنطن بعدد كبير من دول العالم. وكأنه لم يكتف بذلك، إذ راح في السنتين الأخيرتين يمارس ضغوطا متواصلة على روسيا، غير مبال باحتجاجاتها وتحذيراتها، الى أن كان الاصطدام الأخير. هل يعني كل ذلك أن الحرب الباردة عادت بين موسكو وواشنطن؟

كلا. والذين تحدثوا عن عودتها، أو بدأوا بالمراهنة عليها (وقد يكون من بينهم بعض الدول العربية أو الإسلامية) يخطئون كثيرا في حساباتهم ومراهناتهم. أولا: لأن العالم عام 2008 قد تغير كثيرا عما كان عليه في النصف الثاني من القرن العشرين. فهو لم يعد ثنائي الاستقطاب. ثانيا: كان الصراع بين موسكو وواشنطن صراعا عقائديا أساسيا بين الشيوعية والرأسمالية. أما ما يحرك بوتين، فهو الشعور القومي الروسي. ثالثا: في الحرب الباردة السابقة كان هناك نوع من توازن قوى عسكرية بين موسكو وواشنطن، أما اليوم، وبالرغم مما لحق بالولايات المتحدة ودول حلف الأطلسي من خسائر في العراق وأفغانستان، فإنها ما تزال، أقوى عسكريا من روسيا. إن ما حدث في جورجيا يؤشر الى إن تحولا ما قد حدث في العلاقات الدولية، وعلى الأخص في العلاقات الروسية الأميركية ـ الأوروبية. وهو تحول ستنعكس تداعياته على معظم مناطق العالم، ولا سيما منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وربما على الحرب الساخنة الحقيقية الدائرة في العالم على الإرهاب.

لقد تحدث كثيرون عن «عودة الحرب الباردة بين الشرق والغرب».