شاهدة على اعتقالات الخميس 3 سبتمبر 1981

TT

الساعة الثانية صباح الخميس 3 سبتمبر عام 1981 دهمت مباحث أمن الدولة بيتي واعتقلتني، لأكون معتقلة مستديمة في كل مناسبة ومن دون مناسبة، أخذوني من صلاة قيام الليل لأوضع تحت بند قضية إنشاء وتكوين تنظيم شيوعي! أبقوني ساعات في قسم النزهة ثم أوصلوني بعد شروق الشمس إلى سجن القناطر للنساء، فقد كنت ضمن القطفة الأولى لما يسمى الآن: «اعتقالات سبتمبر عام 1981 الشهيرة».

أدخلوني قسم سجناء الرأي بمبنى مستشفى السجن، ثم وجدت نفسي نزيلة غرفة مع معتقلتين سابقتين هما: شاهندة مقلد وفريدة النقاش. رفقة السجن مثل رفقة السفر مثل رفقة الزواج، ليس المهم بالدرجة الأولى الاتفاق أو الاختلاف في الرأي أو المنطلق السياسي، بشكل نهائي المهم هو التعاون النفسي وإنسانية المشاركة، وهذا ما خشيت ألا أجده مع فريدة. كانت الغرفة بها حوض تنتشر من مواسيره ليلا صراصير حمراء كبيرة وتغطي الجدران، ومن خبرة اعتقالين سابقين عام 1973 وعام 1975 توصلت لحل هو إضاءة النور ليلا بالغرفة حتى لا تخرج الصراصير بكثافة وضمان عدم زحفها فوقي وأنا نائمة. طلبت من شاهندة وفريدة السماح بترك النور مضاء عند النوم، وافقت شاهندة لكن فريدة قالت: «ما أعرفش أنام والنور والع»، قلت لها: «وتعرفي تنامي والصراصير ماشية فوقك؟» وقلت «ليلة زي بعضها»، في صباح اليوم التالي بعد ليلة رعب مع الصراصير قلت لشاهندة: «ويقولوا مافيش تعذيب...ما اسم السجن مع فريدة إذن؟».

اعتقالي جاء ضمن هجمة حاشدة على كل مثقفي وكتاب وسياسيي مصر تقريبا وبلا استثناء في محاولة من الرئيس السادات ليثبت، لمن يريد أن يثبت لهم، أن مركزه قوي وبإمكانه إخراس كل مصر من دون أن تهتز له شعرة. جاء مساء الجمعة 4/9/1981، وإذا بباب الغرفة يفتح وتدخل معتقلة جديدة تقول للسجانة: «ميرسي..اتفضلي حضرتك بقى»، والسجانة تغلق الباب علينا بالمفتاح. كنت أرقد على سريري يمين الداخل من الباب أفكر بصراصير النوم، وسرير فريدة النقاش إلى اليسار، جاء الوضع هكذا من عند ربنا، لم أتعرف على المعتقلة الجديدة، حتى سمعت صرخة فريدة: «أمونة..أمونة..» ثم احتضان وبكاء، وهللت شاهندة ضاحكة تقول: «أهلا أهلا» كأنها صاحبة الدار. لم أهتم بمعرفة من هي أمونة، طالما هي أمونة فريدة التي بدا لي أنها تبالغ في الاحتفال بها لتعطيني الانطباع أن مدد عزوتها قد وصل لدعم موقفها في قضية إطفاء النور. بدأت أمونة تتحدث بصوت عربي فرانكفوني: «أنا كنت ألم كتبي في صناديق العزال وبعدين فتحت الباب لواحد قال احنا مباحث أمن دولة ممكن يا دكتورة تتفضلي معانا؟ قلت فين؟ قال شوية كده نتكلم سوا، قلت له حضرتك شايف إني أعزل ممكن نأجل الكلام ده أسبوع؟ قال لا دول خمس دقايق بس وترجعي، لكن لقيتهم ماشيين في سكة غريبة وبعدين جابوني هنا مش هم كده يبقوا بيكدبوا؟».

كنت أتابع الصوت وعند النهاية لم أملك نفسي من الإغراق في الضحك حتى كدت أموت. يا نهار أبيض أمونة داخل الزنزانة ولا تزال تتساءل بكل جدية وبراءة إذا كان وفد الاعتقال كاذبا أو صادقا.

نهضت جالسة وقلت لأمونة: «تأكدي حضرتك إنك في سجن القناطر»، وكان هذا هو لقائي الأول مع صديقتي العزيزة الدكتورة أمينة رشيد أستاذة الأدب الفرنسي بآداب القاهرة. بعد ساعات في توغل الليل والنور والحمد لله مضاء بسبب سهرة التحليل والتكهنات، فتح الباب مرة أخرى ودخلت شابة منقبة، وما أن رفعت النقاب حتى طلع البدر علينا بعينين دامعتين. قلت أخفف عنها: أرجوك لا تبكي. قالت بالفصحى الريفية: «جزاء الله الخير، أنا صعبان علي والدتي»، في الثامنة عشرة، وفي الشهور الأولى من حملها، وقالت باقتضاب اسمها: أمل عبد الفتاح إسماعيل من دمياط. انقلبت كل تحليلات شاهندة رأسا على عقب وران على وجه فريدة ما تصورته إحساسا بخيبة الأمل لأن الضربة شملت كذلك الجانب الآخر وهذا يعني أن لقب النضال سوف يغطيهم أيضا.

جاء يوم السبت 5/9/1981 بأنباء عن خطاب سوف يلقيه الرئيس السادات مساء، وقبت شاهندة بجهاز تلفزيون، استعارته من تاجرة حشيش تعيش في مملكة عامرة بالخيرات بالدور العلوي فوقنا، وأخرجته من مخبأه بعد إغلاق التمام. تحلقنا داخل الزنزانة أمام شاشة التلفزيون نشاهد ونستمع إلى السادات يطيح في كل اتجاه متوعدا، هادرا، ليمس الكافة والجميع بلا استثناء. وألجمتنا المفاجأة و«لن أرحم» شعار مرفوع لا يمكن لأحد التكهن بأبعاده التي قد تبدأ بالسجن مدى الحياة حتى الإعدام، عقوبات لتهم لم نعرفها.

في صباح الأحد 6/9/1981 جاءت المشرفة ونادت اسمي وأمينة رشيد وأمل إسماعيل وقالت: «معايا على عنبر المتسولين»، وهو عنبر يضرب به المثل في السجن لقذارته وامتلائه بالجرب ويشتكي منه المتسولون. قلت للمشرفة: من حقنا البقاء في قسم جرائم الرأي. قالت هامسة: حق إيه؟ ليس لكم حتى الحق في زيارة أو طعام من الخارج أو ملابس أو تحويلات للكنتين!

دخلنا العنبر، الذي كان ينفصل عن بقية السجن بفناء خاص به له باب حديد مغلق، غير بوابته الحديدية الخاصة به والمغلقة كذلك معظم الوقت. كانت هناك أربع فتيات تتراوح أعمارهن بين 15 سنة و20 سنة، بين منقبة ومختمرة، ثم توالى قدوم د. نوال السعداوي ود.لطيفة الزيات. قالت د.لطيفة وهي تضحك: أنتهي من حيث بدأت، وسرحت في كلمتها، هل عدنا إلى غليان الأربعينيات حين كانت الشابة لطيفة في خضم مظاهرات الطلبة فنالت جزاءها اعتقالا في زمن ملكي واحتلال إنجليزي؟ وكان يبدو على د. نوال الذهول: كسروا بابي، لاحظت أنهن جميعا لم يحضرن ملابس أو أشياء خصوصية مثل الليف والصابون وفرشة الأسنان والمعجون والملعقة والكوب البلاستك والمناشف... إلى آخر لوازم المعتقل الضرورية، التي بت أحفظها عن ظهر قلب، فقد صدقن جميعا حكاية «كلمتين شوية كده وراجعين»، وبما إني كنت معتادة اعتقال فكانت حقيبة الاعتقال شبه جاهزة لدي، بل إنني كنت من خبرتي أضع في حسابي احتمال وجود معتقلات لأول مرة، فأضيف مناشف زائدة وليفا زائدا وصابونا تجنبا لمشكلات الأمراض الجلدية التي قد تنشأ من الاستعمال الجماعي. قسمت المناشف قطعا متساوية ووزعتها، وكنا حوالي 11 معتقلة بعد وصول الدكتورة عواطف عبد الرحمن، أستاذة الصحافة، قادمة مباشرة من المطار ومعها حقيبتها التي وفرت نصيبها من الاحتياجات.

أسفر الوضع في العنبر عن وجود أربع دكاترة د.لطيفة الزيات ود.أمينة رشيد ود.نوال السعداوي ود.عواطف عبد الرحمن، وخمس شابات من المنقبات والمختمرات وأنا أفكر ترى من بينهن عزائي ومن بينهن عذابي.

بين هذه السطور التي قد تبدو للبعض طريفة كانت هناك حوادثها التي ألقت في 3 سبتمبر 1981 بـ 1536 شخصية من أفضل أبناء مصر، من مختلف التيارات والتوجهات والأحزاب وراء القضبان بلا جريرة ومن دون تهمة، بذريعة قالها الرئيس الراحل محمد أنور السادات زعم بها أنه يتحفظ عليهم حتى ينتهي من عمل ما يريد عمله، ويكون التساؤل: إذا كان ما أراد عمله هو من خير البلاد، فكيف تكون هناك حاجة تدفعه لتكبيل كل هؤلاء الذين رأى أن من الأفضل إزاحتهم عن طريقه؟

نعم! لقد كنت واحدة من الذين تم ترويعهم في ذلك الفجر الخميس 3/9/1981، ورأيت في طريقي إلى السجن عمائم الشيوخ والقساوسة تساق إلى الإهانة والبهتان، ودهشت لحجم الضربة التي لم ترحم من تجاوز السبعين من عمره ومن لم يبلغ الخامسة عشر، والجميع في ذهول يتساءل: ما هي الحكاية وما هو مداها؟ هذا الترويع كان يخضع لكل الاحتمالات حتى أننا تصورنا، مع قسوة الإجراءات، والتكدير داخل المعتقل، أنه كان من الممكن أن نقتل جميعا في مذبحة لا تقل في وحشيتها عن مذبحة القلعة التي ارتكبها محمد علي ضد الأمراء المصريين في مطلع القرن الـ19، تلك المذبحة التي تجد الآن من يطلق عليها: «الجريمة الرائعة».