قراءة في «قمة دمشق» الرباعية 

TT

كنت أنوي اليوم الكتابة عن المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري الأميركي، الذي رشح رسمياً أحد الرجلين اللذين سيكتب لهما، ما لم يحدث ما ليس في الحسبان، قيادة العالم في السنوات الأربع المقبلة. غير أن مداخلة الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد في ختام «قمة دمشق» الرباعية تبدو الآن أجدر بالمناقشة.

فأي رئيس أميركي في نهاية المطاف يعمل في أطر مؤسساتية اكبر من الاجتهاد الشخصي، ومن ثم فهو مضطر لتحمل تبعات سياساته أمام الناخبين خلال أربع سنوات.. ما لم يدفع الثمن في الانتخابات النصفية خلال سنتين. أما في حالة الرئيس الأسد فتحمّل التبعات مسألة غير واردة، طالما أن أساس فلسفة النظام هو اللعب على التناقضات محلياً وإقليمياً ودولياً، ومن ثم الابتزاز المستمر بهدف القبول به كـ«شرطي حراسة» إقليمي يعمل في ظل المعادلة الدولية للمنطقة.

وإذا كان صحيحاً ما ورد عن «ضيق» فرنسي وقطري من كلام الأسد عن لبنان في ختام القمة، التي جمعت قادة فرنسا وقطر وتركيا بجانب سورية، فالصحيح أيضاً أن الرئيس السوري في ما ذهب إليه لم يخرج إطلاقاً عن أسّس السياسة التي ورثها عن أبيه، وعن فلسفة النظام الذي أسّسه في اواخر عام 1970 ومنطلقها هويته الاجتماعية وتركيبته المصلحية، واستطراداً، حساسيته الأمنية المفرطة دفاعاً عنهما. وهنا يمكن مع كلام الرئيس السوري المستغرب عن لبنان الانتقال زمنياً من معالجة «حالة حماه 1982» المفترض أنها مبرّرة غربياً... إلى تسليط الأضواء على «حالة طرابلس 2008» التي تحاول دمشق تشويهها ومن ثم ترويجها وبيعها كخدمة هي على أتم الاستعداد لتأديتها للمجتمع الدولي، دعماً للاستقرار الإقليمي ومساهمة في الحرب على الإرهاب!

ثم انه حين كان «الانعزال» و«التقوقع» الأسلوب الساذج الذي اعتمده بعض مَن هم في مثل ظروف نخبة الحكم السوري في أيام الرئيسين الأسد الأب والابن، كان السلاح الفعّال لهذا الحكم حتى اليوم المزايدة في «الانفلاش» العروبي والمبالغة في «الثورية» و«التضامن القومي» و«الوحدويّة»، و«تخوين» كل من لا يتفق ونهج «الصمود» و«التصدي».. وفي ما بعد «الممانعة» (!)، وصولاً إلى إهدار دمه. وهذا بالضبط ما حصل مع كمال جنبلاط وياسر عرفات ورفيق الحريري و.. غيرهم كثر .

«قمة دمشق» الرباعية كانت بلا شك حدثاً استثنائياً، ولو أن الآتي من الأيام سيكشف عن مكنوناتها أكثر مما أعلن حتى اليوم. أما الأمر المؤكد فهي أنها عقدت بوجود «حاضرين غائبين» من العبث التوهم أنهما حقاً كانا بعيدين عنها، هما الولايات المتحدة وإسرائيل. فضلاً عن أنها عقدت في ظل تغييب عربي.. وغياب إيراني.

فحتى إذا ما سمحنا لأنفسنا بتصديق الكلام الرسمي السوري عن أن المفاوضات الوحيدة الجارية بين دمشق وتل أبيب هي تلك التي ترعاها أنقره، نجد أن الدول الثلاث الأخرى المشاركة في «القمة» الرباعية على اتصال مستمر وعلاقة علنية بواشنطن وتل أبيب.

فمن العبث الزعم أن نيكولا ساركوزي، الذي هو أقرب زعيم فرنسي إلى واشنطن في التاريخ الحديث، وحتماً الأوثق صلات بإسرائيل منذ رئيس الوزراء الأسبق بيار منديس ـ فرانس، يمكن أن يعيد تأهيل دمشق دولياً من دون «ضوء أخضر» أميركي ـ إسرائيلي.

وأيضاً سيكون غريباً بعض الشيء أن تتولى تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، «تغطية» الاتصالات السورية الإسرائيلية من دون رغبة إسرائيلية وموافقة أميركية.

ثم ان دمشق نفسها، التي كرّرت حتى في أيام الرئيس حافظ الأسد مقولة «السلام خيار استراتيجي» ـ بمعنى أن محاربة إسرائيل غير مطروحة ـ متحمسة جداً، وفي العلن، لاستدعاء الرعاية الأميركية لمفاوضاتها مع إسرائيل.

أكثر من هذا، نعلم علم اليقين أن إسرائيل مرتاحة جداً للحكم السوري، والإدارة الأميركية التي لا تستلطفه كثيراً غير مستعدة لتغييره.. وهي على الرغم من «غضبها» عليه لا تريد أكثر من «تغيير سلوكه».

تحت أي ذريعة عقدت، إذاً، «قمة دمشق» الرباعية؟

المسيو ساركوزي، برّر سياسته «السورية» دائماً بأنها قد تفضي إلى الحل المأمول في لبنان والحلحلة المرجوة مع إيران. وهذا كلام يبدو منطقياً، لولا بعض التفاصيل.

من هذه التفاصيل، مثلاً، أن الصلة بين دمشق وطهران أكثر من مجرد صلة سياسية. وكان عمقها الاستثنائي قد ترجم نفسه في انفراد دمشق «العلمانية» عن كل العواصم العربية ـ رغم شعارات «التضامن العربي» المجلجلة ـ في دعم إيران «الملالي» في الحرب العراقية ـ الإيرانية. وأن العلاقة الخاصة بين دمشق وطهران أساساً أسهمت في خلق الوضع الاجتماعي المتوتر جداً اليوم داخل لبنان. وأن إسرائيل، أللهم إلا أذا كانت ضالعة في مؤامرة تمويهية هائلة، تعتبر أن ألد الأعداء بالنسبة إليها النظام الحالي في إيران، لا سيما، أنه يدعم «حزب الله» اللبناني عبر سورية، ويموّل الحركات الأصولية الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.. الموجودة قياداتها في دمشق.

عند هذه النقطة نخرج باستنتاجين لا ثالث لهما، هما:

1 ـ إن دمشق ستجد نفسها مضطرة، إذا ما نجحت «المفاوضات» مع إسرائيل، للتضحية بحليف بأهمية الحليف الإيراني، مع ما يُفترض أن تجره هذه التضحية السخية من متاعب ومخاطر بنيوية حقيقية للنظام.

2 ـ إن الحلف الأميركي ـ الإسرائيلي دخل فعلياً، أو هو داخل أصلاً، في حوار ترتيب أوضاع «الوكالة الإقليمية» مع إيران عبر الوسيط السوري، الذي أثبت على الدوام أنه حليف يركن إليه في الملمات. ولعل واشنطن وتل أبيب تذكران جيداً كيف أمكن ضرب المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية عامي 1976-1977، وكيف كان الموقف السوري في «حرب تحرير الكويت».

عقارب الساعة تتحرك، والرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) على الأبواب، وحالة الارتباك الإسرائيلي معرضة لبلوغ خط الحسم بعد نهاية عهد إيهود أولمرت. وإذ ذاك ستنجلي حقائق كثيرة ما زالت دفينة التمنيات والشعارات.. وفنون التضليل أيضاً.