في قبضة الصحافة!

TT

حينما قررت ذات يوم أن أترك عملي الحكومي وأتفرغ للصحافة جفاني النوم لأيام طويلة، وأنا أغمس لقمة عيش أسرة بكاملها في حبر الكتابة، فالصحافة كما يشاع عنها متقلبة المزاج، تشبه القطة التي تأكل أبناءها، وكان أبي أكثر المحتجين على قراري، فهو يؤمن بأن «عشرة الميري بألف»، لذا كان يقول متعجبا: «تترك عملك الحكومي لتتحول إلى بائع كلام»، ورغم هذا قررت المغامرة من أجل عينيها، ومنذ ذلك التاريخ البعيد وأنا مرهون في ركابها، معلق في أرجوحتها صعودا، وهبوطا، وبين بين..

سألني مليونير من تجارة العقار ذات مرة:

ـ كم دخلك السنوي من الصحافة؟

قلت: ما يغنيني عن بيع التراب الذي تحت قدمي!

فقلب العبارة في رأسه قليلا قبل أن يقذفني بكلمة «فقري» ويمضي..

تداعت هذه الأفكار وغيرها في الذهن بالأمس وأنا في مواجهة سؤال أب رغبت ابنتاه الوحيدتان الجامعيتان الاشتغال بالصحافة، وهما يسألاني النصيحة، فقلت:

ـ واحدة تكفي.. فإن أدركتها الحظوظ العواثر توكأت على الأخرى.

لنا صديق صحافي قالوا له: «إن الخط المستقيم أقصر طريق بين نقطتين»، وكانت دواخله ظمأى إلى شيء من الضوء فأحرقوا دمه.. من يومها وهو لا يذهب إلى بيته إلا من شارع واحد فقط، هو الشارع المستقيم.. لا يأكل إلا من رغيف واحد فقط، هو الرغيف المستقيم.. وحينما أنهكته الصحافة افتتح بقالة صغيرة تطل على شارع الصحافة، مكتفيا بالتمرغ في ترابها..

زارنا الكاتب الكبير الراحل محمد حسين زيدان ذات يوم بعيد، ونحن منشغلون في العمل الصحافي، ومبهورون ببريق الصحافة، فقال:

ـ أنفدوا بجلدكم قبل أن تحكم قبضتها عليكم.

فقلنا: يا أبانا أي قبضة تقصد؟

فقال بكل جدية وحزم: قبضة الصحافة.

وكنا قد أحرقنا مراكب الهروب مبكرا، فلم يكن أمامنا سوى المزيد من الارتماء في أحضانها، وتباينت الحظوظ، وتفاوتت أقدرانا..

ولو استعدنا عمرنا المسروق من ركاب الزمن، وسئلنا إلى أين؟

لقلنا: من جديد إلى مشتل النور والنار.

[email protected]