روسيا.. وفرض استقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية

TT

لقد أوجدت روسيا دولة من نوع جديد: وهي دولة من المفترض استقلال أراضيها إلا أن سكانها يعتبرون مواطنين منتمين إلى دولة أخرى. ففي حادث جلل من نوعه، اعترفت روسيا باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وهما جمهوريتان مستقلتان كانتا في السابق جزءًا لا يتجزأ من جورجيا منذ عشرينات القرن الماضي.

لقد حاولت روسيا تبرير تدخلها العسكري من خلال الزعم بأنها حاولت حماية مواطنيها هناك. ويعد استخدام القوة لحماية مواطني دولة ما ليس بالجديد في تاريخ الدول. ومع ذلك، فإن العملية المعتادة للقيام بهذا، هي الذهاب إلى الدولة المعادية، وإنقاذ مواطني الدولة، وتحريرهم من السجن الذي يعيشون فيه، حينئذ تأتي نهاية القصة.

إلا أنه في هذه الحالة، لم يذهب الروس لتحرير مواطني الدولتين، لقد ذهبوا لمنح أوسيتيا وأبخازيا استقلالهما.

إن عددَ منْ يحملون جواز سفر روسيا في أبخازيا يبلغون حوالي 90% من جملة السكان البالغين 200.000 نسمة. بينما يعزى للجورجيين حوالي 5% من جملة السكان، أما الأرمينيون وشعوب القوقاز فيمثلون البقية الباقية من تعداد السكان. وهو ما يعني من ناحية أخرى، أنه لن يكون هناك أي فرد من الأبخاز يمكن أن يُطلق عليه لقب أبخازي بين سكان جمهورية أبخازيا الجديدة !

وبالمثل في أوسيتيا الجنوبية، حيث يبلغ عدد الحاملين لجوازات السفر الروسية حوالي 95% من نسبة السكان البالغة في الأصل 75.000 نسمة. أما الـ5% المتبقية فتتنوع ما بين الجورجيين، والشيشان، والإنجوش، والكاملوكس، والشركس. ومرة أخرى ليس هناك أي وجود لأوسيتيين. ويعد هذا الموقف نتيجة لإحدى الخدع الروسية القديمة.

فمنذ عام 2000، أصدرت روسيا جوازات سفر روسية لأي شخص يطلب ذلك في أبخازيا وجنوب أوسيتيا، وكان المعيار والشرط الوحيد المطلوب للقيام بهذا أن يكون المتقدم بهذا الطلب يتحدث الروسية. ولم يكن هذا صعبًا نظرًا إلى أن منطقة القوقاز بأكملها كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي حتى عام 1991، وكان سكانها ينالون الجنسية الروسية لمدة قرنين من الزمان.

لقد زعم الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف أن قواته دخلت أبخازيا وجنوب أوسيتيا لمؤازرة صراعات التحرير القومية. ولكن أي الدول تلك التي نتحدث عنها؟ فمنذ عام 2002، وأكثر من 90% من سكان أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية يصوتون في الانتخابات الروسية، ومنها الانتخابات التي جلبت ميدفيديف للرئاسة.

ولكن يلوح لنا في الأفق تساؤل: لماذا يندفع الأبخاز والأوسيتيون للحصول على جوازات السفر الروسية؟

السبب الأول لقيامهم بذلك، أن كلا الشعبين يكره الجورجيين ـ والذين بينهما وبينهم تاريخ طويل من العداوة والعنف ـ أكثر مما يكرهون الروس أنفسهم.

ففي عام 1991، ألغى الرئيس الجورجي آنذاك زياد جمساخورديا الوضع الاستقلالي لأبخازيا وأمر بتدمير المراكز الثقافية والآثار التاريخية هناك. ونتيجة لتلك للأعمال العنيفة التي نشأت، لقي أكثر من 4000 أبخازي مصرعه، بينما فر عشرات الآلاف إلى روسيا.

وتابع جمساخورديا تنفيذ سيناريو مشابه لما حدث في أبخازيا لكن هذه المرة في أوسيتيا الجنوبية في الفترة ما بين 1990 ـ 1992. حينها، قُتل أكثر من 2000 من سكان أوسيتيا، فيما أُجبر الكثيرون على هجر قراهم ومساكنهم. وفي كلا الحالتين، اعتبر الأبخاز والأوسيتيون جوازات السفر الروسية سياسة ضمان ضد أي عمليات وحشية أخرى.

ومع ذلك، لم يندفع الأبخاز والأوسيتيون في جماعات كبيرة للحصول على جوازات السفر الروسية إلا عام 2006 فقط. وكان السبب وراء ذلك قرار الاتحاد الأوروبي بالسماح لحاملي جوازات السفر الروسية بالتنقل بحرية عبر القارة الأوروبية، وهي المزية التي لا يحظى بها حاملو جوازات السفر الجورجية.

ولكن، لماذا تشرع روسيا في مباشرة استراتيجية عالية الخطورة لانتزاع أرضين متناهيتين في الصغر من جورجيا (فالمساحة الفعلية لأبخازيا تُقدر بـ6800 كيلومتر مربع (أي أصغر من لبنان) بينما تصغُر أوسيتيا عن هذه المساحة أيضًا حيث تُقدر مساحتها بـ3900 كيلو متر مربع)؟ إن هذه الخطوة الروسية تثير بالفعل قدرًا من الدهشة والاستغراب نظرًا إلى أن روسيا ـ منذ حوالي 200 سنة ـ وقفت دائما إلى جانب الجورجيين في مواجهة الأبخاز والأوسيتيين.

والحقيقة أنهم من أصول تركية، اعتبرت روسيا الأبخاز على أنهم مؤيدين للإمبراطورية العثمانية، ومناهضين للروس. أما الأوسيتيون ـ وهم من أصول إيرانية ـ فإنهم غير موثوق بهم بسبب أنهم انحازوا إلى إيران في الحروب التي أفضت إلى انتزاع روسيا لمنطقة القوقاز فيما بين 1801 ـ 1830.

إن هناك 3 أسباب رئيسة تبرر لماذا اتجهت روسيا إلى القيام بهذا:

أولاً: من أجل أن تومئ بعودتها كقوة عظمى تعتبر منطقة القوقاز جزءًا من مناطقها ومعتركها.

ثانيًا: معاقبة جورجيا بسبب مناشدتها لعلاقة خاصة مع الولايات المتحدة. فقد أرسلت جورجيا البالغ تعداد سكانها حوالي 4 ملايين نسمة أكثر من 3000 جندي إلى العراق. كما أنها تقدمت بطلب للانضمام إلى حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، فضلاً عن أنها تستضيف بعثة عسكرية أميركية كبيرة الحجم. أضف إلى ذلك كله، مضي الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي إلى أبعد من ذلك من خلال سعيه الحثيث لحصول بلاده على عضوية الاتحاد الأوروبي.

ثالثًا: تحديد جورجيا لنفسها على أنها طريق بديل لأنابيب النفط والغاز الطبيعي المتصلة بمنابعها من بحر البلطيق وحتى الأسواق الأوروبية عبر البحر الأسود.

وهذا الأخير بالذات يُعتبر تحديًا للاستراتيجية الروسية الرامية إلى السيطرة على كل أنابيب النفط المتجهة إلى أوروبا.

وعبر إفقاد جورجيا استقرارها، أرادت موسكو أن تخبر المستثمرين الغربيين أن يفكروا مرتين قبل خسارة أموالهم في الأنابيب الجورجية.

وأخيرًا، من المهم لفت الانتباه إلى أن تأجير روسيا لمنشآت الموانئ في سيباستبول بشبه جزيرة القرم سينتهي بحلول عام 2017. وهناك فرصة ضئيلة للغاية بأن تجدد أوكرانيا ـ المالكة لشبه الجزيرة ـ للعقد. ومن شأن هذا الأمر أن يترك الأسطول الروسي على البحر الأسود بلا مأوى، فضلاً عن صعوبة دخوله إلى المياه الدافئة؛ خاصة بعد أن سيطرت تركيا ـ العضو في حلف الناتو ـ على مضيق البوسفور بموجب معاهدة مونتريو عام 1936.

ومن أحد الفرص البديلة لميناء سيباستبول، ميناء اللاذقية السوري، ومنذ سنوات طوال تسري التكهنات بشأن إمكانية تأجيره للبحرية الروسية. ومع ذلك، فإن موسكو لا يمكنها أن تأمن أن القيادة السورية لن تغير رأيها، تاركة الأسطول الروسي بالبحر الميت بلا مأوى.

لذا، فعبر السيطرة على أبخازيا، يمكن لروسيا أن تطور موانئها لتكون مقرًا جديدًا لبحريتها. وبدون هذه القاعدة، ستفقد البحرية الروسية وضعيتها في البحار، وتتحول بصورة فعلية إلى قوات لخفر السواحل محدودة المدى.

إن ما شهدناه في أبخازيا وأوسيتيا ما هو إلا عملية انتزاع استعمارية تقليدية، سهلتها سذاجة الرئيس الجورجي، وجبن القوى الغربية، وضعف كل من تركيا وإيران ـ وهما القوتان التقليديتان اللتان حاولتا موازنة النفوذ الروسي في القوقاز.

ومع ذلك، ففي هذه الأيام ليس من السهل تبرير عملية الانتزاع الاستعماري للأراضي، ولذا ظهرت العملية الروسية كما لو كانت خطوة لدعم تقرير المصير في كل من أبخازيا وأوسيتيا.