من سيفوز في الانتخابات الأمريكية ؟!

TT

في العادة فإنني من المهتمين للغاية بالانتخابات الأمريكية، وبالطبع فإن هناك أسبابا كثيرة لهذا الاهتمام لدى قطاع واسع من المهتمين بالسياسة العالمية، باعتبار الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة الباقية في العالم، والمهتمين بالسياسات الإقليمية بحكم علاقات واشنطن بكل دول المنطقة ووجودها العسكري الدائم في بحارها، وحتى المهتمين بالسياسات الداخلية لدول الشرق الأوسط، حيث يعتقد دائما أن للبيت الأبيض في هذه السياسات نصيبا وحظا. وخلال الأيام القليلة الماضية أضاف الرئيس السوري بشار الأسد سببا لم يخطر على البال من قبل وهو أن المفاوضات المباشرة بين سوريا وإسرائيل سوف تنتظر نتائج الانتخابات الأمريكية حتى يتوفر وسيط «نزيه» يستطيع أن يأخذ المفاوضات إلى غايتها وهي توقيع اتفاقية سلام بين الطرفين. ولكن في حالتي فإنه بالإضافة لكل هذه الأسباب فإن «التخصص» العلمي والأكاديمي المباشر يجعل الاهتمام بالسياسة الأمريكية في العموم ولحظات التحول في قيادة الدولة في الانتخابات الرئاسية بوجه خاص لها أهمية عليا.

ولكن هذا التخصص كثيرا ما أوقعني في معضلة أسئلة من الصعب الإجابة عليها مثل من الذي سيفوز في الانتخابات الأمريكية؟ وفي العادة فإن الإجابة على مثل هذا السؤال لها صعوبات كثيرة؛ ولكن الأمر هذه المرة أكثر صعوبة لأن السائل العربي سوف يصيغ السؤال بالصيغة التالية: هل يستطيع باراك أوباما الفوز؟ وربما يضيف لذلك سؤالا آخر أكثر درامية وهو: هل سيغتالون باراك أوباما حتى يفوز جون ماكين؟ هنا تبدأ الأمور تدريجيا في الخروج على التخصص، حيث تدخل المسألة في مجالات البحث الجنائي والدراسات العنصرية، كما أن الأسئلة لا تخلو من استدعاء للتاريخ، وربما حدثت عليها إسقاطات من السياسة العربية والأفكار الذائعة عن المؤامرات التي تصعق كالأقدار الحتمية والقضاء النافذ.

على أي حال فإن إجابتي على الأسئلة تأخذ دوما المسار التالي: إن الديمقراطيين لن تتوفر لهم أبدا فرصة مماثلة لهذا العام حتى يفوز مرشحهم باراك أوباما برئاسة الولايات المتحدة. فنادرا ما تتجمع جملة من الظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية لكي تميل لصالح مرشح كما هو الحال هذه المرة؛ فهناك رئيس أمريكى جمهوري ـ جورج بوش ـ هو الأٌقل شعبية في هذه الفترة من الحكم في تاريخ الولايات المتحدة؛ وهو يقترب من نهاية إدارته وليست له إنجازات ملموسة في السياسة الخارجية أو الداخلية. فعلاقات أمريكا بحلفائها عند حدها الأدنى منذ عقود، وعلاقاتها بأعدائها لا تحتوي على انتصار، والاقتصاد الأمريكي في حالة سيئة، والمزاج العام الأمريكي متعكر بشدة لكل هذه الأسباب. وإذا أضيف إلى ذلك أن المرشح الجمهوري جون ماكين ليس فقط كبير السن وتقليديا بحيث يبدو منتميا إلى عالم مضى بأكثر من انتمائه إلى عالم القرن الواحد العشرين، ولديه ارتباطات أكثر مما ينبغي بإدارة جورج بوش لا يستطيع فصمها وإلا خسر المحافظين المتشددين؛ وفوق ذلك تبدو دعوته لتغيير واشنطن مضحكة حينما يكون حزبه مسيطرا عليها طوال السنوات الثماني الماضية. عائد كل ذلك على الصورة الجمهورية من القوة والطغيان السلبي إلى الدرجة التي تجعل التقدم الملموس داخل العراق بعد تطبيق استراتيجية «التصعيد» لا يلاحظه أحد، وبعض بوادر التحسن في الاقتصاد الأمريكي لا يلمسه أحد، وبشكل من الأشكال فإن الرأي العام الأمريكي يبدو مستعدا لكي يلقي بالإدارة الجمهورية إلى الشارع في أقرب فرصة.

وفي المقابل فإن المعسكر الديمقراطي لديه أسباب كثيرة للتفاؤل، فلديه مرشح قوي له صفات كارزمية وملهمة بأفكار حديثة هو باراك أوباما؛ وعندما يتحدث عن التغيير فإنه يجذب إلى الذهن فورا صورة رئيس آخر ديمقراطي شاب جلس في البيت الأبيض لثمانية أعوام وترك الولايات المتحدة في أحسن حالاتها داخليا وخارجيا هو بيل كلينتون. ومن شاهد مؤتمر الحزب الديمقراطي وقارنه بمؤتمر الحزب الجمهوري فإن الفارق هائل من حيث جاذبية الشباب وحيويتهم مقابل جماعة من المتقاعدين؛ ودرجة هائلة من التنوع العرقي والديني مقابل غالبية ساحقة من البيض؛ وبينما جاء تطعيم المرشح الرئاسي الشاب برجل من أصحاب الخبرة ـ عضو مجلس الشيوخ جو بايدن ـ نوعا من إضافة لحيوية الحزب، كان تعيين سارة بلين حاكمة ألاسكا خصما من تجربة المرشح الجمهوري بأولادها الخمسة وابنتها التي تحمل طفلا بدون زواج في حزب يزهو بمحافظته على القيم والأخلاق.

والقصة هكذا تبدو كما لو كانت محسومة، وفي أوقات سابقة كانت استطلاعات الرأي العام سوف تعكس هذا الحسم؛ ولكن الحال ليس كذلك، ورغم التفوق الطفيف لباراك أوباما فإنه لا يزال في المساحة التي يمكن تغييرها. ويعود ذلك لسببين: أولهما أن الولايات المتحدة منقسمة على نفسها كما لم يحدث في أي وقت مضى حول دورها في العالم، وحول أنجع السبل للتكيف مع ما يجري في العالم. وباختصار فإن أمريكا مثلها مثل غيرها لا تزال تبحث عن كيفية التعامل مع العولمة، والعلاقة بين الحضارات والأجناس في ظل ثورة تكنولوجية تقلب العالم رأسا على عقب في كل لحظة. وهذا الانقسام ينعكس جغرافيا وديموغرافيا على الدولة، حيث يتركز الديمقراطيون والليبراليون والتقدميون في العموم في الولايات الواقعة على السواحل الشرقية والغربية وفي المناطق الحضرية من ولايات الصناعة الجديدة؛ بينما يتركز الجمهوريون والمحافظون وأصحاب الأفكار التقليدية في الولايات الداخلية وولايات الصناعة التقليدية وما تبقى من ريف. وخلال العقدين الأخيرين، وعلى مدى الانتخابات الرئاسية الأربعة الأخيرة فإن هذا الانقسام كان يزداد عمقا. وليس صدفة أن الدعوة للوحدة جاءت على رأس البرنامج الانتخابي للفريقين.

وثانيهما أنه مع هذا الانقسام الحاد في عموم الشعب الأمريكي، والذي يجعل مساحة الانتقال في التأييد من مرشح إلى آخر أقل من أي وقت مضى، فإنه مرتبط بأن مصير الانتخابات الأمريكية لا يتحدد بمدى التصويت الشعبي لأي من المرشحين وإنما بمدى ما يحصل عليه في المجمع الانتخابي الذي تحتسب فيه الأصوات على أساس من الولايات؛ وهي واحدة من تجليات النظام الفيدرالي الأمريكي الذي يعطي للمرشح كل أصوات الولاية إذا ما حصل على أغلبية صوت واحد فيها. وكما هو معلوم أنه في انتخابات عام 2000 والتي أتت بجورج بوش إلى البيت الأبيض أعطت منافسه الديمقراطي آل جور الأغلبية في عدد الأصوات بينما حصل الجمهوري على أغلبية أصوات الولايات فكتب الفوز له.

حصيلة هذين السببين تجعل ما كان محسوما بفوز المرشح الديمقراطي باراك أوباما معرضا لقيود قوية لأن شعبيته لا تغير من الأمر الكثير، بل أن حقيقة كونه من أصول أفريقية، وحتى له خلفية إسلامية من نوع أو آخر، معاملا في عملية الانقسام الأمريكي وتعميقه من ناحية؛ وتجعل أهمية الولايات، وأحيانا المقاطعات ذات الهوية المحددة ذات أهمية خاصة ومقيدة في كل الأحوال للاستنتاج السهل الذي توصلنا إليه. فالواضح أن الانتخابات سوف تتحدد نتيجتها في النهاية في عدد محدود من الولايات، بل ربما في عدد محدود من المقاطعات التي ترجح النتيجة في الولاية في نهاية الأمر. وخلال أشهر الصيف خرج إلى المسارح الأمريكية فيلم لكيفين كوستنر بعنوان «الصوت المرجح» الذي يتخيل أن تتوقف نتيجة الانتخابات الأمريكية على صوت واحد !.

فهل كل ما سبق هو هروب من الإجابة على السؤال ورفض للتنبؤ الصريح بالفائز بالانتخابات الأمريكية؛ والإجابة هي أن الترجيح لا يزال قائما لأن هناك عاملا جديدا أدخله باراك أوباما إلى المعركة الانتخابية وهو جذب أصوات جديدة إلى الانتخابات. وأثناء الانتخابات التمهيدية جذب أربعة ملايين صوت إضافي لم تشترك في الانتخابات من قبل فكان له الفوز على هيلاري كلينتون رغم ما كان لها من أرصدة تاريخية وسياسية؛ وكانت هذه الأصوات الإضافية الجديدة هي التي أعطته من التمويل ما لم يتوفر لمرشح آخر؛ ومن الجائز أن تكون هي التي سوف تحمله إلى البيت الأبيض. تعالوا ننتظر ونرى، فربما كان التنبؤ هذه المرة صحيحا !.