تأملات في القلق السعودي المستديم على لبنان

TT

كانت المملكة العربية السعودية التي يصادف عيدها الوطني هذه السنة الاسبوع الاخير من شهر الصوم المبارك جعل الأمتين من عُوَّاد المناسبتين، مهمومة بكل لبنان، وبالذات بما آلت اليه أحوال العاصمة الاولى بيروت والتي لم ينقطع الاهتمام بها، أدوية وطواقم طبية وودائع ونجدات استثنائية ومواد تموينية ونصائح وبالذات في ضرّائها تاركة للبنانيين على تنوُّع أطيافهم المذهبية والسياسية الاستمتاع باللحظات السرَّاء، فإذا بها تجد نفسها مشغولة البال على العاصمة الثانية طرابلس ونجد السفير الدكتور عبد العزيز خوجة المحزون من ارتفاع منسوب التردي الذي وصل اليه الوضع في لبنان يتلقى توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بأن يستكشف ميدانياً أحوال العاصمة الثانية ولا ينتظر أن يأتيه رموز المدينة من العلماء رجال الدين ومن علمانيين سياسيين وفعاليات اقتصادية وأكاديميين ومفكرين الى رحاب السفارة ليوضحوا له ما يحدث وإنما يتوجه الى العاصمة الثانية يرى ويستمع ويُسمِع. وهذا ما حدث، حيث ان السفير خوجة كان الوحيد بين سفراء الأمتين، ونكاد نقول نيابة عنهم، الذي توجَّه السبت 23/8/2008 الى طرابلس، بلد الأفندية الرؤساء الثلاثة الأب عبد الحميد كرامي والابنين الرئيس الشهيد رشيد وكاظم الغيظ الرئيس عمر، المبتلاة بحرب من صنع غير لبناني، ليسمع من مفتيها الشيخ مالك الشعار صاحب النبرة الهادئة حتى عندما تكون احتمالات المخاطر كبيرة كلاماً لا ينقصه الوضوح ولا يخلو من الخشية فضلاً عن انه جديد الى حد ما على مسامع اللبنانيين. ومما قاله: «نحن لا نعيش أزمة معيشية بل نقاوم معركة الوجود السُني الاسلامي وهويتنا مهددة بالأفول. كل السُنة في المنطقة يشعرون بسند بوجود المملكة العربية السعودية وإذا كُسرت شوكة المدينة فذلك يُنذر بزلزال كبير للوجود السُني في لبنان والمنطقة المجاورة. كما أن العرب والمسلمين محضونون عبْر المملكة بشخص خادم الحرمين الشريفين وحكومته الرشيدة وولي عهده..». ويضيف المفتى الشعار مخاطباً السفير خوجة «تتكرر محاولات الفتنة في طرابلس كي تُجر الى معركة وتعم الفوضى. وإذا عمت الفوضى فلن تتوقف في طرابلس وتكون النهاية هي التي يعمل لها الآخرون من اجل طائف جديد تختل فيه التوازنات السياسية في لبنان، فبدل أن يقوم لبنان على قاعدة ثنائية مسيحية - اسلامية يفرضون علينا قاعدة جديدة ونظرية خطيرة ان يقوم لبنان على المثالثة، وهي لا تجعل المسيحيين جميعاً في ثلث وكفى، بل تجعل الهيمنة على القرار السياسي في لبنان لمفتعلي الأزمة».

أفترضُ شخصياً أن كلام مفتي طرابلس والشمال يحمل في طياته نداء استغاثة ما كان الشيخ مالك الشعار ليوجِّهه لو أنه رأى أن القدرة المحلية على مواجهة وضع مستجد على طرابلس متوافرة. ومع ان السفير خوجة كعادته ينأى عن الانفعال ويتحدث كما الشيخ الشعار بكل الهدوء داعياً الى التهدئة «من أجل أن يبقى لبنان هذا البلد العظيم مستقراً»، إلاَّ أن تشخيصه لمكانة طرابلس في النفس السعودية قيادة وشعباً كان أمراً جديداً علينا لم نسمعه من قبل مفترضين أن العاصمة بيروت هي كل ما يشغل البال السعودي فإذا بنا نرى ان المملكة مهمومة لأحوال العاصمة الثانية بالقدر نفسه للعاصمة الاولى وستكون مهمومة بالعاصمة الثالثة صيدا وبكل عاصمة محافظة من محافظات لبنان المبتلى بأبشع حالات التلاعب الحزبي والسياسي بمصيره. وهي إضافة الى انها مهمومة نراها مهتمة بإعادة كل ما هو مرتبك في الوطن الى الوضع المستقر، ومن دون التوقف عند افتراءات يتزامن حدوثها مع افتعال الفتن وكأنما بمقدور المفتري تغطية محاولات إشعاله الفتنة بالإكثار من الافتراءات. وهنا نلاحظ أن الرد السعودي على هذه الافتراءات وعلى نحو تلخيص السفير عبد العزيز خوجة له لا يكون بفظاظة المفترين وإنما بكل اللباقة الدبلوماسية واحترام الخصوصية اللبنانية وهذا لمَسَه الذين حضروا مجلس المفتي الشعار وسمعوا الدكتور خوجة يقول «نحن في لبنان في بلاد حرة، كل واحد يقول ما يريد. ونحن لا نجبر الناس على شيء وكل اناء ينضح بما فيه. اننا نعمل بشفافية ووضوح والجميع يشهد على ذلك ولا نجبر أحداً على مبادلتنا الحب بالحب...».

وكأننا بالسفير الدكتور عبد العزيز خوجة يرى في لبنان.. كل لبنان، وليس طرابلس التي سارع الخطى للوقوف على محنتها ولا بيروت التي سبق أن أدمى وجدانه ما أصابها، انه القمر الذي يتمنى كشاعر ان يبقى على اضاءته لا أن ينتهي حاله كما جاء في الخمسة عشر بيتاً هي قصيدته التي كتبها يوم 19/8/2008 عندما تناهى الى سمعه ما يحدث في طرابلس. ومَن يتأمل في بعض كلمات الابيات الخمسة عشر يستطيع تصوُّر أي حال هي حال السفير خوجة التي هي من حال بلاده قيادة بارة بالأمة وكأنها الأم. ولبنان هو القمر الذي يجب ألاَّ يأفل ولا أن ينتحر. والأبيات هي:

تقول ابنتي أحقاً كان عندكم قمر.. يغازل النجوم كل ليلة ويؤنسُ العشاق في ليل السَّمر. يا ليتني يوماً أراه.. سهرتُ ألف ليلة حتى السحر. بحثتُ عنه في السماء لم أره. ما عاد شخص ذَكَره. كأنه أسطورة قد كان من عمر البشر. قرأتُ عنه في الكتب.. سمعتُ عنه في الأغاني والأدب وفي قصائد الهوى.. يشدو بها لحن الوتر. سمعتُ عنه في الوعود.. سمعتُ عنه شاهداً على العهود. لكنه كما يقال قد رحل.. وبعضهم قد قال لي بأنه أفل.. وبعضهم أسرَّ لي بأنه انتحر.

وهذه الأبيات هي توأم أبيات سابقة بدا فيها الدكتور السفير الشاعر عبد العزيز خوجة نائحاً على لبنان وما انتهى اليه مآله:

لبنان في قلبنا نار تؤرِّقنا.. خوفاً على بلد قد عزَّه الأزلُ. هذي هي الارزة الشماء دامعة.. هذا هو الجبل العملاق ينفعلُ. كأنَّ لبنان لا أرض ولا نسبٌ.. وأهل لبنان من لبنان قد رحلوا. أين الثقافة هل جفَّت منابعها.. أين النهى نورُه ضاءت به الدول. جُرحٌ على الأمل المكسور ينحرني.. لبنان عد أملاً فالجرح يندملُ. يا ساسة البلد المستنجد اتحدوا.. هذي بلادكمُ والسهلُ والجبلُ. لبنان إني على عهدي رفيق هوى... مهما يطل بُعدنا فالجمع يشتملُ. ما لا تفيض حوله القريحة يتولاه اللسان. وما لا يدمل الجرح من خلال وقفات النخوة المستديمة من المملكة يستحضره سفيرها بعبارات لم يعتد اللبنانيون سماعها من زوارهم العرب والاجانب. وكلها عبارات تركز على ان الحوار يمنع الفتنة والاستقرار يحقق الازدهار وإصلاح البنية التحتية يكون بإصلاح البنية السياسية. وهي عبارات سمعها اللبنانيون قبل الأزمة وخلال تداعياتها وسمعوها بعد أن اعتمد السفير خوجة دبلوماسية التهنئة لكل وزير تسلَّم حقيبة من دون تمييز بين حقائب سيادية مهمة وحقائب خدمات وحقائب شرفية. وهو يحرص على أن يتم كل ذلك في وضح النهار. ولأنه شاعر فإنه يضفي على ما يقوله مفردات يستقبلها اللبنانيون بأقليتهم المعلنة وأكثريتهم الصامتة بامتنان. وهم جميعاً على اقتناع بما اعتمدتْه المملكة، ملوكاً أبناء عن والد مؤسس، صمد أمام الفتنة والمفتونين نهجاً ورؤية في التعامل مع شعوب الأمتين. وبالنسبة الى لبنان فإن الرؤية مرفَقة دائماً بالعبارة التي أوردها الدكتور عبد العزيز خوجة في يونيو (حزيران) الماضي مع نبيه بري حامل الرئاستين رئاسة البرلمان ورئاسة «حركة أمل» المأمول منها استيلاد موقف سياسي شيعي موحَّد. والعبارة هي «إن علاقة المملكة هي مع لبنان كدولة بكل طوائفه ومجموعاته السياسية».

وهكذا فإنه على خلفية القلق من تزايُد الكلام حول حديث الفتنة السُنية - الشيعية والضجيج الذي يرافق هذا الحديث جاءت زيارة السفير خوجة الى طرابلس تشكل علامة فارقة تنسجم كل الانسجام مع حرص الملك عبد الله بن عبد العزيز على تدعيم ما سبق ان تم انجازه بالنسبة الى لبنان في عهد الملك فهد بن عبد العزيز وكيف ان اتفاق الطائف أنقذ وطناً. وها هي اللحظة الحرجة التي يواجه فيها الاتفاق مخاطر الفتنة تؤكد أن المنقذ يحتاج الآن الى من ينقذه من تلاعُب المتلاعبين. وليس غير عزيمة الملك عبد الله بن عبد العزيز وإخوانه وصفاء النيات من جانب بعض أُولي الامر الحزبي والحركي والديني في لبنان، مَن في استطاعته أن يتولى الانقاذ، وبذلك ينجو لبنان المصوَّب عليه من خارج الحدود القريبة والبعيدة.. والأبعد.