«طُزْ في الشهادةِ..»!

TT

بادئ بدءٍ، ألتمس عُذراً لاستعمال «طُزْ» عنواناً، مع أنها لا تعني سوى الملح بالتركية، وقصة تسويقها للاستهانة طويلة. تراها شائعة في المشارق والمغارب. أحسب لقوتها كانت ذريعةً لقصف الطائرات الأمريكية للجماهيرية الليبية بعد ساعات من هتاف زعيمها بملعب الحبيشي، وسط مدينة عدن (1981): «طُزْ طُزْ في أمريكا»! احتفالا باتفاقية ثلاثية مع إثيوبيا واليمن الديمقراطية، ورددتها الجماهير بعده. أُوضح أيضاً: أن الشهادة هنا تعني الوثيقة الجامعية لا مَنْ يسقط على الشاهدةِ (الأرض) قتيلاً وتشهده ملائكة الرحمة (القاموس المحيط).

اقتبست العنوان من قصيدة نظمها مستشار لرئيس الوزراء ورئيس جامعة ببغداد، ممتعضاً من الإلحاح في كشف تزوير الشهادات واعتمادها في تقييم الكفاءة، وتنفيذ ما يأتي من متابعة دائرة معادلة الشهادات! ليس لنا مع السيد المستشار خلاف، بل على العكس للرجل ذكرى طيبة، كان من المجاهدين، ومن شعراء القريض الحماسي، والمختصين بالفقه، وبحملات الحجيج. لذا أرى موقع الرجل، والعديدين مثله، في مجال الثقافة الدينية، وهو أيضاً يرى نفسه كذلك، عندما تسلم، بعد عودته مركزاً دينياً مرموقاً، وسعى إلى تأسيس المدارس الدينية، أما الجوانب الأكاديمية والفنية والثقافية فلا أراه يرجحها على اختصاصه الأصل.

أما الفن والثقافة بمفهوميهما المحصورين، والدراسة الأكاديمية كعلم، فهما بحاجة إلى الفعل الثقافي العلمي، بما لا يناسب مقام شاعر «طُزْ في الشهادة» الديني والسياسي. وليس لصاحبنا التشبه بنموذج الشيخ محمد رضا الشبيبي (ت 1965)، مع ما بينهما من هيئة العِمامة، والسبب أن الأخير ليس له في الثقافة الدينية سوى لقب الشيخ، ومجمل أعماله كانت في الأدب واللغة والفكر، وكان من فحول الشعراء والمحققين والبلغاء، وبهذا له صدارة المجمع العلمي العراقي وعضوية مجامع عربية، وكان بالعراق مقابلاً لطه حسين (ت 1973) بمصر، وهو الجنوبي الأصل النجفي المولد والنشأة، فتح قريحته بأجود الشعر، حين رثى غرقى سفينة (تايتانيك». ومطلعها: «بأبيك أقسم يا ابنة البحر الذي.. وأراكِ كيف رأيتِ فتك أبيكِ»(لغة العرب، آب 1912).

نظم مستشار رئاسة الوزراء ورئيس الجامعة: «طُزْ في الشهادة إنها خرقاء.. فأنا أنا، وشهادتي علياء.. إني الذي أبني المكارم عالياً.. من أمةٍ شمخت، وهم رِعناءُ»! ويختمها: «حتام تُغلق في الوجوه نوافذٌ.. ويُعيق شرع حقوقنا الأعداءُ»؟! لكن، ألا يدري صاحبنا أن نافذة العلم والإدارة الأكاديمية هي الشهادة! وأن تزويرها وعَدمها في تلك المهام يعني الفساد الثقافي والعلمي، وبالتالي خراب البلاد!

«طُزْ في الشهادة» أدق وصف لحالة العراق العلمية والثقافية، وأجدها معكوسة «طرطرا» محمد مهدي الجواهري، فالأولى انتصرت لبؤس الحال والثانية سخرت منه، مع فارق الشاعرية بين صاحبي القصيدتين. تحدث «طُزْ...» عن السياسة وصراع الطوائف لتكون الحياة العلمية أول ضحاياها بعد الانتصار! ويلغي الاستخفاف بالشهادة، على لسان المشير لرئيس الوزراء، العجب من تراجع الطب إلى الكهانة وما على شاكلته! وأراها ضيزى بحق ماضي وحاضر العراق عندما يكون رأي مستشار حكومة ورئيس جامعة «طُزْ في الشهادة...».

لا بد من المصارحة: أنتم بهذه السياسة تنازلتم عن قيم أكثرتم التصريح بها، وتضرون العراق، وتخذلون مَنْ تحمل الهوائل وانتخبكم. فلو دققتم بلا تعصب في أمر استبدال الكفاءة الثقافية والأكاديمية برابطة النسب والحزب، ستجدون أنفسكم إلى أين أنتم ذاهبون، وكأن العراق خلا من مثقفين، إذا أردتموها طائفية ولتكن، فبنات طائفتكم لم يعَقمنَ من ولادة مثقفين وأكاديميين من غير دوائركم الضيقة!

حرصاً، أذكر رئيس الوزراء، الذي أحس في نبرته حساً وطنياً وخطاباً غير مقعر، لا تغره شرعية الانتخاب بأن يسمح في سياسة ثقافية وأكاديمية لازِمتها «طُزْ بالشهادة»، وأن تسمى قاعات الجامعات والمراكز العلمية بأسماء لا صلة لها بهذا المجال، وأن لا يسمع لمستشارين، يُغَلبون ذواتهم على الناس. أُذكر بما جادت به قريحة شاعر الفرات الأوسط (1930) لرؤساء ذلك الزمان، وقد أُخذت منهم البيعة: «يمنادي الشعب لباك مِنْ ناديت.. ذبحت أهل الفرات عِليك ما بكَيت(بقيت).. سويتك حكومة وسلميتك بيت(دولة).. أشلون تسلم البيت المطرة ومطره تصاوغ (تهاديه) بيه»(الخاقاني، شاعرات في ثورة العشرين)! ولا يذهب البال بمطرة إلى مذهب خبيث، فهي مجرد كناية عن عدم التدبير والحرص. أما ذبح أهل الفرات، فقد تلفع العراقيون أكفانهم أمام صناديق الانتخاب، وكانت المحصلة انتصار الفساد وهزيمة النزاهة، واستبدال المكانة الثقافية والأكاديمية برابطة الأنساب والأحزاب! وهي العلة نفسها، التي راح الألوف قتلى في معارضتها، إلا أن «أكثرَ آمالِ النفوسِ كواذبُ»!

على أية حال، ما بين القصيدتين: «يمنادي الشعب» و«طُزْ في الشهادة» مسافة شاسعة، لا يُقَربها دهرٌ!

[email protected]