إنني أحبك يا بابا

TT

إذا أراد الإنسان أن يأخذ العِبر، فما عليه إلاّ أن ينصت للممرضات ـ فقط ينصت وليس أكثر من ذلك ـ.

تقول إحداهن: فيما كنت أدخل غرفة أحد المنومين، لاحظت أنه كان ينظر للباب بلهفة، لكنه سرعان ما خفض بصره حينما أدرك أنني الممرضة، وضعت السماعة على صدره وسمعت دقات قلبه تدل على أنه يعاني من نوبة قلبية خفيفة، ونظر إليّ والدمع يملأ عينيه، وقال: هلا استدعيت ابنتي؟ إنني أعيش وحدي وليس لي أحد سواها، وما كاد ينهي كلامه حتى تسارعت أنفاسه، وقويت كمية الأكسجين المعطاة له، ثم قال: هل لك أن تعطيني ورقة وقلما؟ وأخرجت ذلك من جيبي ووضعتهما على الطاولة بجانبه.

وراجعت سجله ووجدت اسم ورقم ابنته كأقرب الناس إليه، واتصلت بها وما أن أخبرتها أن والدها في المستشفى إثر نوبة قلبية، حتى صرخت: ماذا تقولين، هل هو على فراش الموت؟!، أرجوك لا تدعيه يموت. كان ذلك توسلا منها أكثر منه استفهاما، وقلت لها: إنه يحصل على أفضل عناية.

لكنها تابعت قائلة: إنك لا تدركين الأمر، لقد حصلت مشادة عنيفة بيني وبين أبي قبل سنة تقريباً، ولم أره منذ ذلك الوقت، وكنت أريد طوال هذه الأشهر، أن أذهب إليه ليصفح عني، وكان آخر ما قلته له: إنني أكرهك، ثم تكسّر صوتها وسمعتها تنتحب وهي تقول: إنني قادمة سأكون في المستشفى خلال 30 دقيقة.

بعدها حاولت إلهاء نفسي بقراءة بعض السجلات، لكنني لم أقو على التركيز، وذهبت إلى غرفة الأب ووجدته بلا حراك، وجسست نبضه فلم أسمع أي صوت، فما كان مني إلاّ أن أضرب جهاز الطوارئ، وأنكبّ عليه لإدخال الهواء إلى رئتيه واستمر بالضغط على صدره.

ودخل الأطباء والممرضات ومعهم أجهزة الطوارئ، وأدخلوا أنبوب في فمه للتنفس الصناعي، وأعطوه حقنا في الأوردة، وأخذوا يصدمون صدره بالقبضات الكهربائية، غير أن كل تلك المحاولات للأسف باءت بالفشل.

خرجت من الغرفة، وإذا بي أشاهد أحد الأطباء ممسكاً بذراع ابنته التي وصلت، وكان يكلمها وهي تسحب قدميها في ذهول وتستند إلى الحائط خوفاً من السقوط.

عندها ذهبت إليها، وأخذت تحدق بي بوجه جامد ونظرات منكسرة، وقلت لها بارتباك: إنني حزينة جداً لما حلّ بك، فقالت لي: صدقيني إنني لم أبغضه قط، لقد أحببته، والآن أريد أن أراه، ومشينا ببطء نحو الغرفة، ودفعت هي الباب بقوة إلى حيث والدها ودفنت وجهها في ملاءات السرير.

واستدرت وإذا ببصري يقع على ورقة على الطاولة وكانت رسالة من الأب موجهة إلى ابنته، ناولتها إياها بيد مرتجفة، وإذا هو قد كتب فيها: ابنتي يا أعز الناس، إني أصفح عنك، وأتوسل إليك أن تصفحي عني أنت أيضاً، أعرف أنك تحبينني، وأنا كذلك أحبك.. أبوك.

وشاهدت إمارات السلام تتلألأ في عينيها وهي تقبّل الورقة وتضمها إلى صدرها.

وتمضي الممرضة قائلة: لقد شكرت ربي، ورأيت عبر النافذة نجوماً قليلة تومض وسط الظلمة، وأول ما خطر على بالي في تلك اللحظة هو والدي، وتوجهت إلى التليفون واتصلت به في هذا الوقت المتأخر من الليل، ويبدو أنني أيقظته من النوم، وما أن سمع صوتي حتى سألني بفزع قائلا: خير إن شاء الله يا ابنتي؟!

قلت له: أبداً خير إن شاء الله، كل ما هنالك أنني أردت أن أقول لك: إنني أحبك يا أبي، ثم أغلقت السماعة.

[email protected]