المصالحة في طرابلس وتجدد الحوار الوطني

TT

كان العمل السياسي البارز الذي اندفع النائب سعد الحريري، لإنجازه بطرابلس، أمراً يدعو للتقدير، وهو بمثابة الدبلوماسية الوقائية، وسط استمرار التوتر السياسي بالداخل اللبناني، والمأزق السوري، في خضمّ العمل من حول سورية لإقناعها «بإعادة التموضع».

بعد مؤتمر الدوحة بدا الرئيس الأسد كأنه أحد المنتصرين فيه. لكنه بعد ذلك «أنجز» ـ إذا صحَّ التعبير عدة تراجُعات: ففي فرنسا في زيارته لها في 14 تموز (يوليو) الماضي، وعلى أثر اجتماعه مرتين بالرئيس اللبناني، تحدث عن «شهور» لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ورأى تأجيل «الحوار الوطني» لشهرين.. ورفض الحديث في موضوعاتٍ تهم لبنان، مثل مزارع شبعا وترسيم الحدود والمعتقلين اللبنانيين في سورية. وفي الأسبوع الماضي، وأثناء المؤتمر الصحفي مع أمير قطر والرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء التركي أدلى بملاحظات أقل ما يقال فيها إنها مؤذية للبنانيين وللعلاقات بين البلدين. فقد قال إنه طلب من الرئيس اللبناني إجراء مفاوضات مع إسرائيل عندما تصبح المحادثات السورية / الإسرائيلية مباشرة. كما طلب منه إرسال لواء من الجيش اللبناني إلى طرابلس للقضاء على «المتطرفين السلفيين الذين تدعمهم دول!».

وقد أثار هذا الاستطراد، الذي أضطر أمير قطر للردّ عليه في المؤتمر نفسه، لدى اللبنانيين سخطاً لجهتين: التعرض للرئيس اللبناني ـ الذي زار سورية قبل أسبوعين في بادرة صداقة وودّ! – بهذه الطريقة المهينة، والأمر الآخر التعرض للسيادة اللبنانية وفي أمرين أساسيين: المفاوضات مع إسرائيل، والمسألة الأمنية بالداخل اللبناني وفي طرابلس بالذات. وهاتان المسألتان بالذات «يتهم اللبنانيون جميعاً سورية بأنّ لها ضلعاً كبيراً فيهما. فقد كانت وجهة النظر اللبنانية خلال السنوات الثلاث الماضية أنّ تحرير مزارع شبعا لا يحتاج إلى مفاوضات مع إسرائيل، بل المطلوب أن تعترف سورية رسمياً تجاه الجهات الدولية بلبنانية المزارع، بحيث تطلب الأمم المتحدة من إسرائيل الانسحاب منها استناداً إلى القرار رقم 425 الخاصّ بالانسحاب من الأراضي اللبنانية. وهكذا فإنّ عدم اعتراف سورية بذلك، يُبقى أمر ملكية المزارع المحتلة متنازعاً عليه بين لبنان وسورية، ويُعطي لإسرائيل الفرصة باستمرار الاحتلال. وكانت وجهة النظر السورية العَلنية أنّ العلاقات سيئة مع فريق 14 آذار الحاكم، ولذلك لن تجاملهم، وإن كانت ترى أنّ المزارع لبنانية بالفعل! وكنا قد اعتدنا خلال عهد الوصاية السورية على القول بوحدة «المسار والمصير»، ومن ضمن ذلك في ما يبدو، ألا يتحرر جنوب لبنان إلاّ عندما يتحرر الجولان! وقد فُجع السوريون وارتبك حزب الله عندما انسحبت إسرائيل عام 2000، ثم اخترع لهم اللواء جميل السيد، مدير الأمن العامّ اللبناني وقتها «مسمار جحا» المتمثل بمزارع شبعا. وقد أسرف الطرفان في استعماله، وبخاصة حزب الله. لكن الآن انتقل حزب الله إلى مسمار أو خازوق آخر هو «السياسة الدفاعية»، بينما ما تزال سورية تعتبر الملفّ ضمن الجولان بشكل من الأشكال. ومن هنا تأتي المسألة الثانية: مسألة التفاوض مع إسرائيل! إذ يبدو أن الرئيس الأسد ما يزال مقتنعاً بوحدة المسار والمصير، ولذلك قال للرئيس اللبناني إنه ما دامت سورية توشكُ أن تدخل في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل؛ فإنّ على لبنان أن يدخُل فيها أيضاً! إنما بأيّ هدف؟ ليس فقط من أجل مزارع شبعا، بل لإنجاز اتفاقية سلام بين الدولتين، تنهي كل المشكلات، ومن ضمنها تحليق الطيران الإسرائيلي، واستمرار التهديد بالعدوان، ومن ضمنها أيضاً فتح الحدود وتبادل التمثيل الدبلوماسي، والعلاقات التجارية العادية! وغنيٌّ عن البيان أنّ لبنان لا يستطيعُ ذلك ولا يريده، لأنّ المزارع محتلة، والتهديدات مستمرة؛ لكن أيضاً لأنّ حزب الله يريد استمرار حالة الحرب مع العدوّ تبريراً لاستمرار سلاحه، وهو يحاول أن يُطوِّل الأمر الآن بالحديث عن الاتفاق على سياسية دفاعية. إنما لماذا يريدنا الرئيس الأسد أن نفاوض إسرائيل؟ يريدنا أن نفاوض لتبرير تفاوضه هو فيبقى «المساران» واحداً. ولإزعاج إيران وحزب الله، اللذين لا يريدان مفاوضاته مع العدوّ. وطبعاً لن تستجيب حكومة الوحدة الوطنية اللبنانية لطلب الرئيس الأسد للاعتبارات السابقة، ولأن الهدف الأقرب للبنان هو العودة للهُدنة بعد وضع مزارع شبعا تحت إشراف القوات الدولية. وكان لبنان قد التزم الهدنة مع إسرائيل حتى حوالي العام 1968 فما حدثت مشاكلُ على الحدود ولا تكاثر تحليق الطيران المعادي إلاّ بعد بدء أعمال المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل في العام 1965/1966.

ويبقى «اهتمام» الرئيس الأسد غير المفاجئ بشمال لبنان. فالمعروف أنّ الاضطرابات بدأت بطرابلس وعليها عشية إغارة حزب الله على بيروت. فهاجت المدينة الشمالية لسببين: دخول حزب الله لبيروت بالسلاح، وقصف «الشباب» في جبل محسن لأحياء باب التبانة. وهي الجبهة التي كانت قد هدأت منذ العام 1988. وجبل محسن، حيٌّ من أحياء طرابلس، وسكانه في كثرتهم الساحقة من العلويين من أصول سورية. وقد عملوا خلال الحرب الأهلية والوصاية السورية مع السلطة السورية، وشاركوا في معاركها في طرابلس بالثمانينيات. والمفروض أنه منذ حوالي الستة أشهر، انفصلت أهداف الحزب ومصالحه، عن الأهداف والمصالح السورية. وقد حرص الحزب على إبراز التأييد السوري له في الدخول إلى بيروت، فأشرك معه في الحملة الحزب القومي السوري، الذي قام بأعمال قصف وتخريب في بيروت، وأنشأ مراكز مسلَّحة في طرابلس وعكّار. لكن يبقى أنَّ الطابع الغالب على الاضطراب في بيروت والبقاع الأوسط من حزب الله، والطابع الغالب (أو الحصري) على مشكلات طرابلس والشمال سوري. وكان السوريون كما هو معروف قد استخدموا التنظيم الوهميَّ المسمى «فتح الإسلام» قبل أكثر من عام لمصارعة السُنّة في الشمال، وإزعاج السعودية، واختيار صلابة الجيش اللبناني. ولأنّ تنظيم فتح الإسلام ما نفع، ولأنّ الحزب القومي السوري لا يستطيع نشر الاضطراب بطرابلس وعكّار لضآلة حجمه وانتشاره هناك؛ فإنّ السوريين اضطُروا لاستخدام العلويين مباشرة، رغم مخاطر ذلك على سُمعتهم، أو العكس: بمعنى إظهار قدرتهم على نشر الاضطراب، فتأتي إليهم الدول والجهات متوسطة ومكلِّفةً بإخماد الاضطراب! وقد اتهم الأسد المتطرفين السلفيين بالتطرف والإرهاب بطرابلس والشمال، ودعا الجيش اللبناني إلى القضاء عليهم. وفي ذهنه أنه بذلك إنما يكسب تعاطف الغرب، باعتباره من داعمي الكفاح ضد الإرهاب. كما أنه يزعج السعودية المُجافية له. ويزيد من الضغوط على السنة الذين يشعرون بأنهم يناضلون على ثلاثة محاور ـ بحسب لغة الحرب الأهلية: محور حزب الله/ حركة أمل، ومحور سورية/ جبل محسن، ومحور الجنرال عون، الذي اشتدّت حملاته التلفزيونية على تيار المستقبل والمسلمين السُنّة. وكان عون قبل عشرة أيام قد اتهم عَلَناً التيارات السلفية في لبنان بالعنف والإرهاب.

لماذا فعل الأسد ذلك، وفي سياق لا يُلائمُ هذا الأمر؟ الأسد مطلوبٌ منه «تغيير سلوكه» فلا يتدخل بالعراق ولا بفلسطين ولا بلبنان. وهذه الدول تحاول أن تكونَ ضامنة له تجاه أميركا وتجاه السعودية ومصر. والطريف أنّ الرئيس الفرنسي كان ما يزال يمدح الأسد على استجابته لتفهم الوضع في لبنان، وعدم ممارسة الاغتيالات، ونشر الاضطراب فيه. لكن يظهر أنّ الرئيس الأسد ما استطاع التعود بعد على لبنان المستقلّ، فوقع في أخطاء أمام ضامنيه في عدة أمور، ومنها لبنان. وهناك أمرٌ لا بد من التنبيه إليه. أنا واثق أنّ سورية تُعيدُ التموضُع، وأنها ستخفّف من تدخلها في لبنان وغزة والعراق. لكنّ النظام السوري إن نسيَ عهد وصايته بلبنان، فكيف ينسى أنه مهدَّدٌ بأن يرثه حزب الله هناك؟! ولذلك يحاول تمييز نفسه ونفوذه من طريق سليمان فرنجية وتمايزه، ومن طريق إحياء الرئيس حسين الحسيني في مواجهة الرئيس بري، ومن طريق تهديد الشمال حيث لا شيعةَ هناك ولا تماسّ يمكن أن يحدث مع حزب الله.

النظام السوري هو الذي أوجد المشكلة العلوية / السنية قبل ثلاثة عقود. ولو كان في المدينة سلاح وإرهاب لما استطاعت عصبة صغيرة أن ترعب المدينة على مدى ثلاثين عاماً. وقد جاءت مبادرة سعد الحريري خطوة واسعة في الطريق الصحيح، لإضعاف التدخل المخابراتي السوري بطرابلس. وقد رحَّب حزب الله بتلك الخطوة. وقد يؤدّي ذلك إلى محادثاتٍ بين حزب الله وتيار المستقبل أيضاً لطيّ صفحة الماضي.

إنما الأمر الجدي الآخر ما أعلن عنه رئيس الجمهورية من عودة لطاولة الحوار الوطني في 16/10 أي بعد أقلّ من أسبوع. وعلى الطاولة بالذات سوف تبدو نوايا وخطط سائر الأطراف.