حروب ما بعد عصر الحرب

TT

يقول احد الفلاسفة المعاصرين إن التصنيف هو أعتى الأسلحة.. وما نعيشه اليوم هو حرب تصنيف حادة داخل الدراسات الإستراتيجية واكبت اندلاع وتطور الأزمة الجورجية التي تستأثر راهنا بواجهة الاهتمام العالمي. هناك الذين يركبون المسلك السهل فيبشرون بعودة الحرب الباردة، ويجدون في الخطاب السياسي الأمريكي المحافظ وبعض الأدبيات القومية الروسية برهاناً على الرجوع لتلك المواجهة الطويلة بين الاتحاد السوفياتي (روسيا الشيوعية سابقا) والولايات المتحدة، مغفلين غياب البعدين المحوريين في الحرب الباردة؛ وهما البعد الآيديولوجي المتعلق بالصراع بين المنظومتين الرأسمالية والاشتراكية والبعد الاستراتيجي المتعلق بقيام كتلتين دوليتين متمحورتين حول القوتين المتصادمتين. وهنالك الذين يكررون نظرية القطب الأوحد (الولايات المتحدة) في مواجهة القوى الإقليمية النزاعة الى التمرد على الشروط الجديدة للنظام الدولي، مع العلم ان مقولة القطب الواحد تنتمي لنفس السياق الاستراتيجي المندثر (أي مناخ الحرب الباردة) ولا يمكن ان تفسر تعقد الخارطة العالمية الجديدة. وثمة الذين يبشرون بنموذج الأقطاب المتعددة التي هي القوى والتكتلات الدولية الصاعدة التي غدت تنافس اقتصاديا وعسكريا الولايات المتحدة التي لا يتردد البعض بالمراهنة على دخولها مرحلة الانتكاس والتراجع، بل والتحلل كما لا يفتأ يتنبأ احد مفكرينا البارزين منذ مطلع التسعينات. ولا تعني نظرية الأقطاب شيئا من منظور التحليل الموضوعي الدقيق، فهي إما أن تكون تعني كما يرى البعض رجوع العالم الى صراع القوى الإمبراطورية في القرن التاسع عشر. والواقع ان ساحة هذا الصراع ورهاناته (الظاهرة الاستعمارية) لم تعد قائمة، او تعني قيام مراكز متعددة للعولمة الاقتصادية، وعندئذ يكون الصدام مجرد تنوع وتنافس داخل منظومة واحدة مندمجة. وكل هذه القراءات هي في حقيقتها مواقف عملية من صراع عيني ليست محدداته ومعطياته جلية للعيان. إن الإشكال حسب اعتقادنا متأتٍّ من ان الحقل السياسي لم يعد قادرا على إفراز النماذج التحليلية الملائمة لاستنطاقه من داخله، مما يفسر طغيان المفاهيم الثقافية في تشخيص الوقائع السياسية. ويفسر عالم الاجتماع الفرنسي المعروف الين تورين هذه الظاهرة بالقول إن النموذج الذي هيمن طيلة قرنين على الدراسات السياسية هو براديغم «المجتمع»، في حين ما نلمسه اليوم هو انحسار هذا النموذج الذي لم يعد يلائم الظواهر السياسية الحالية كتآكل مفهوم السيادة والانفصام بين القوة والمعنى وهيمنة الاقتصادي على السياسي وقيام الاقتصاد اللا مادي كركيزة للعولمة. ففي هذا الفضاء الجديد تغيرت أوجه وقواعد اللعبة الإستراتيجية وتبدلت رهاناتها، مما يفسر صعوبة ضبطها بالنماذج السابقة المستهلكة التي لا تزال تؤطر رؤيتنا للعالم الجديد. ففي المجتمعات «ما بعد السياسية» (حسب عبارة جاك رانسيير) لم تعد السياسة هي مقوم الهوية الجماعية المشتركة، ولا المحدد لهوية الأفراد، بل ان الحقل السياسي أصبح مرغما على التعايش والاقتران مع حقول عديدة أخرى تتوزع المجالات المعيشة للأفراد. كما انه لم يعد متحكما في دائرة السلطة والقرار، مما تعبر عنه مقولة «الحكامة» gouvernance التي أصبحت البديل عن الدائرة السياسية الضيقة. فما نذهب اليه هو ان النمط الجديد من الحروب التي انطلقت مع حرب كوسوفو عام 1999 وحرب العراق 2003 وتواصلت في حرب جورجيا الأخيرة لا يمكن النظر اليها في ما وراء الإشكالات القانونية والإستراتيجية التي ولدتها كمؤشرات لعودة الحروب التقليدية الحادة او الباردة. كما انها ليست مؤشر نظام دولي جديد مهما كانت سماته، انها تندرج في سياق المعادلة الجديدة للعولمة التي غيرت جوهريا علاقة العنف بالسياسة والشرعية، وحولت مفهوم الحرب الى نموذج العملية الأمنية الداخلية لحماية النفس في مواجهة خطر لا وطن له ولا حدود.

ان المفارقة التي يقوم عليها هذا التصور تتمثل في الاحتفاظ بالحصن الأخير للسيادة لإثبات الهوية والتميز، في فضاء لم يعد فيه لمفهوم المصالح الحيوية معنى. فالحرب الجورجية من هذا المنظور ليست مؤشر انبعاث روسيا القيصرية ولا روسيا السوفياتية، بل هي تعبير عن القلق من العجز عن بناء سياسة قومية منسجمة تناسب المعادلة الجديدة لعالم لا محول فيه ولا مركز له.