حكاية ذنب وعذره

TT

قبل أسبوع فقد زميل لنا والده. وقرأت النعي في الصحف. وبحثت عن عنوان المنزل في بيروت أو رقم الهاتف أو رقم الفاكس، فلم يكن هناك. وانتقل الزميل من بيروت الى باريس، ونشر نعيا آخر في الصحف، بلا عنوان أو هاتف أو فاكس. وعندها فهمت أن المسألة مقصودة، فهو لا يريد أن يعذب أحدا بواجب التعزية سوى المقربين الذين يعرفون عنوان المنزل أو هاتفه أو هاتف المكتب. أو ربما الهاتف الجوال.

واكتشفت أنني أعرف الزميل من أربعين عاما، لكنه لم يتصل بي هاتفيا مرة واحدة، لا من منزل ولا من مكتب ولا من مؤتمر. ولا في مناسبة من المناسبات. لا عندما رزقت بابني وابنتي ولا عندما فقدت أبي ولا عندما اتخذت عملا ولا عندما فقدت عملا. ولا طبعا أنا، في هذه الحال، اتصلت، إلا مرتين. واحدة الى مكتبه، وشعرت أنني اعتديت على وقته، وواحدة الى منزله، وشعرت أنني اعتديت على راحته، فقد أخبرني أنه يأكل بزر بطيخ ويكسر فستقا حلبيا و«كاجو»، وأن هذه هي هوايته المفضلة بعد ظهر الأحد. وأدركت أن في الأمر اعتداء على هواية مقدسة. وكان ذلك آخر اتصال بالهاتف السلكي الثابت، وأما الهاتف الجوال، فلم يجرب بيننا منذ اختراعه.

استعرضت هذه الحقائق مثل الفلاحين المتناقرين على مياه الري أو مثل الجيران المتعادين بسبب الضجيج بعد العاشرة ليلا. وقلت في نفسي يا ولد عذرك معك ولا واجب عليك ما دمت منذ أربعين عاما ليس بينكما زيارة ولا هاتف ولا ذكرى مشتركة ولا كلمة خاصة سوى حكاية بزر البطيخ بعد ظهر الأحد، ثم قلت لا، في الإمكان أن اسأل عن عنوان منزله، أي صديق مشترك، وهم كثيرون، ومعي أرقام جميع هواتفهم السلكية واللاسلكية و«البلوبري». ولا حرج عليَّ في «الإيميل» فإنه عصر ما عرفته بعد.

ثم قلت إن أي صديق مشترك أسأله عن هاتف أو عنوان الزميل الكريم سوف يعتقد أنني أسخر منه أو من الزميل. ولذلك الأفضل ألا أتقدم بالتعزية. لكنني شعرت بالذنب. وقلت ماذا لو كان الرجل لا يدرك أنني لا اعرف له هاتفا أو عنوانا طوال هذا العمر.

وتملكتني الحيرة بين أن أبرر لنفسي تصرفا ثأريا وبين أن أتجاوز العناوين والهواتف ولا تهنئة في ولادة ولا تعزية في غياب، ناهيك من أي مناسبة أخرى، ومنها الوطنية وعيد الاستقلال.

ثم عدت فقلت، لو كان الزميل الفاضل يريد من أمثالي أن يعزوه لترك لهم عنوانا أو هاتفا. وبالتالي فهو لا يريد اتصالا منا حتى في هذه الحال. وهكذا تجنبت الزيارة والهاتف. لكنني منذ ذلك الوقت وأنا نادم. لقد قلدّت زميلا تجاهلني أربعين عاما. ربما لديه سبب عميق. أما أنا فلا سبب عندي.