إلى حضرة حميد المكارم والسجايا

TT

يقول أحد الكتاب الكبار في مذكراته: «لعل أصعب عمل تأليفي واجهني ككاتب كان كتابة رسالة اعتذار مقتضبة إلى معلمة ابنتي لتغيبها يوماً واحداً عن المدرسة، فقد ناولتني ابنتي دفتراً وقلماً قائلة: ستصل حافلة المدرسة بعد دقائق، أسرع يا أبي، فبدأت رسالتي كالآتي: حضرة السيدة المحترمة، إن ابنتي كارولين ـ ثم توقفت مفكراً، فمن البديهي أن ابنتي هي كارولين ـ، وبدأت من جديد: كانت ابنتي ـ وهذه البداية أيضاً لم تعجبني، فهي أشبه بشهادة خطية.

وتابعت على هذا المنوال حتى سمعت بوق الحافلة ودب الذعر في ابنتي، وكانت الأوراق الممزقة تغطي أرض المدخل، وإذا بزوجتي تخطف الورقة من أمامي وتنزع القلم من يدي قائلة: هذا غير معقول، ثم كتبت الرسالة بسرعة فائقة، وأعطتها لابنتي التي اندفعت راكضة نحو الحافلة وهي تقول: شكرا يا ماما».

وهذه ظاهرة قد تكون متفشية عند أغلب الكتاب.

وعن نفسي ككاتب صغير وغير محترف، أقول: إنني لا أحسن على الإطلاق كتابة الرسائل الرسمية أو الحكومية التي تختص بالمعاملات، فكتابتي لها من (الركاكة) ما تدعو إلى العجب العجاب، وأحسد من يصوغونها صياغة لا يخر منها الماء، وتؤدي غرضها المطلوب بدون زيادة ولا نقصان ولا تخرج عن أصول التقاليد الكتابية الرسمية.

وأذكر في بداياتي العبثية الثقافية، أن أصابتني في مرحلة من المراحل لوثة قراءة الرسائل التاريخية التي كان يتبادلها الأفراد على مختلف مشاربهم في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكنت اعتقد أن ذلك ما هو إلاّ قمة الإبداع اللغوي في صياغة الرسائل.

وقد سبق أن كتبت إلى موظف (هلفوت)، لتحريك معاملة أكثر (هلفتة)، وبدأت الخطاب هكذا:

إلى جناب الأجل الأمجد الأفخم بهي الشيم.. غب السلام وتقديم واجب الاحترام.

ثم بدأت باستعراض الموضوع الذي كتبت المعروض من أجله، فما أن قرأ هذه المقدمة حتى انفجر ضاحكاً، ثم نظر لي نظرة شك وريبة، ثم أخذ يحرك يديه وأصابعه حول رأسه وكأنه يسألني: هل أنت صاح؟!، ثم مزق الخطاب أمامي قائلاً: انزل تحت إلى الشارع وستجد العشرات من كتاب المعاريض واجعل واحدا منهم يكتب بدلاً منك، يا بهي الشيم يا فصيح.

وقد كتبت إلى آخر في دائرة أخرى: إلى حضرة حميد المكارم والسجايا.. دامت شوكته.

أما الذي كاد أن يوقعني في مصيبة فهو وكيل لإحدى الوزارات، عندما استجمعت كل ما لدي من مفردات البلاغة على أمل أن أؤثر به وينهي معاملتي سريعاً فكتبت له في منتهى النفاق قائلاً:

إلى حضرة سلالة الأماجد الكرام، إلى جناب من طابت أرومته، وعذبت جرثومته، إلى عالي الجاه المحب العزيز، جعلت روحي فداه... ثم دخلت في الموضوع، فما كان منه إلاّ أن يثور في وجهي ثورة عارمة قائلاً: أرومة إيه، وجرثومة إيه؟!، ومن متى أنا أعرفك حتى تفديني أنت بروحك؟!، هنا دائرة حكومية يا حضرة، وليست لعب عيال، ثم قذف معروضي في وجهي، قائلاً: اصحى توريني خلقتك.

أما أخيب موقف حصل معي فهو مع ضابط، وحيث أنني أيضاً لا أفقه إطلاقاً بمسميات الرتب العسكرية حتى الآن، وحيث أنني متأثر جداً بالأفلام المصرية القديمة، فقد قلت له تأدباً: يا حضرة (الصول) وغضب وكاد أن (يكلبشني)، فقد اعتقد أنني انعته (بالصون) ـ وهي تعني أعزكم الله: مخلفات الحمير.

[email protected]