الشراكة التركية ـ الخليجية: كيف ستتصرف إيران؟

TT

شئنا أم أبينا وثيقة التفاهم التركية – الخليجية التي وقعت أخيرا في جدة بين الجانبين تعني ايران بالدرجة الأولى. ورغم أن بعضنا يرى أن احدا لم يكشف عن أسنانه أو يكشر وجهه حتى الساعة فان بعضنا الآخر يراهن على أن تكون الإجراءات الايرانية الأخيرة في الجزر الثلاث ردا مباشرا على توقيع هذه الاتفاقية. لكن طهران مدعوة في جميع الأحوال لقراءة هذه الشراكة بتمعن ودراية كونها تعطي الراغبين بقبول مبادئ وطروحات الوثيقة فرصة الالتحاق والمشاركة.

ما قاله وزير خارجية تركيا باباجان مثلا في أعقاب التوقيع على الاتفاقية «تركيا تولي أهمية كبيرة لأمن الخليج واستقراره.. وهي ستكون في طليعة الدول التي قد تتأثر بشكل مباشر من أي تدهور أمني هناك» واستطراده بتحديد أبعاد وأهداف هذه الاتفاقية لتشكل «الية للحوار السياسي المنظم وتطوير العلاقات الاستراتيجية بين تركيا ودول الخليج»، هي رسائل علنية واضحة مخاطبها هو إيران بقدر ما هي موجهة الى أميركا واسرائيل طبعا. من هنا ضرورة القول إن مذكرة التفاهم التركية ـ الخليجية هذه قد لا تستهدف ايران لكنها رسالة مباشرة موجهة إليها لمراجعة سياساتها الإقليمية خصوصا في الخليج لناحية التمدد والتمسك بالمشروع النووي والازمة المستمرة مع الإمارات.

كان يقال لنا دائما أن أميركا هي التي تحرك وتدير اللعبة باسم بعض دول الخليج ونيابة عنها وأن البعض يتحرك باسم البعض الآخر تحت شعار الذود عن المنطقة ومنع التدخلات الخارجية في شؤونها. كل ما نتمناه الان هو أن لا يقال لنا أن تركيا هي التي تدير اللعبة في الخليج باسم اميركا وهي التي تحول أن تزرع الفتن بين شعوب ودول هذه المنطقة.

تركيا ودول الخليج قررا كما رأينا وضع نهاية لأهم مشكلة في علاقاتهما الانفتاحية وهي غياب المنظومة التي تساهم في تأطير هذه العلاقات وتعزيزها فالقواسم المشتركة التي تجمع سياسات دول مجلس التعاون الخليجي وتوجهات حكومة العدالة والتنمية كثيرة يتقدمها لغة الاعتدال وسياسة التوازن. كما أن التحركات الاقليمية التركية في السنوات الاخيرة باتجاه المساهمة الفعلية في حل مشاكل المنطقة وأزماتها كلها عوامل شجعت دول الخليج الاقدام على مثل هذه الخطوة وتوقيع وثيقة وضعت في مقدمة اهدافها طرح بناء صرح أمني سياسي إنمائي إقليمي منفتح على كل الراغبين في تبني لغة الحوار كحل للمشاكل والنزاعات.

الخليج يرى في تركيا فرصة صناعية زراعية مائية استثمارية وطريقا نحو اوروبا وتركيا ترى في الخليج قاعدة الاحتياج المتبادل ووسيلة تعزيز موقفها على طريق العضوية الاوروبية بكل ما يحمل لها من حظوظ تجارية واقتصادية ومالية وامدادات نفطية. من هنا تعتبر اتفاقية التفاهم والتعاون هذه نتيجة طبيعية لسنوات طويلة من العمل المتواصل الدؤوب على طريق تحسين العلاقات. ويكفي التوقف مثلا عند حجم التبادل التجاري الذي تضاعف 4 مرات خلال السنوات السبع الاخيرة ليصل إلى حوالي 9 مليارات دولار لنكتشف أبعاد قرار تركيا ودول الخليج في توسيع تعاونهما هذا وتحويله الى تحالف استراتيجي متعدد الجوانب.

الوثيقة تتطرق الى تنسيق بنيوي منظم وشامل في المجالات السياسية والانمائية والامنية والدفاعية وهي وثيقة مطاطة سيصعب ايقاف موقعيها عند نقطة معينة اذا ما وجدا فائدة في المضي وتوسيع رقعة التعاون والانتشار. وأنقرة لن تفرط بهذه السهولة بما بنته بصبر وتأن حتى الآن ولن تسمح بمثل هذه السهولة لأي كان أن يهدد مشروعها الانفتاحي التقاربي على دول الخليج هذا الذي يضع أمن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي في مقدمة تطلعاته.

وثيقة التفاهم هذه قد لا تكون تستهدف ايران كما قال الامين العام لمجلس التعاون الخليجي لكنها ستدفع برأينا ايران لمراجعة سياساتها الاقليمية وخصوصا الخليجية منها تحت شعار اطلاق صفحة جديدة من العلاقات وسط انباء وتحليلات تتحدث عن قبول طهران لوساطة تركية بين ايران واميركا تضع حدا لحالة التوتر المتصاعد بينهما. واذا كانت هذه الانباء صحيحة فان هذا يعني أيضا أن القيادة الايرانية سترجح بكل تأكيد قبل ذلك وساطة تركية مماثلة نتوقعها في القريب العاجل تنهي الأزمة الخليجية المزمنة بين الامارات وايران بسبب موضوع الجزر الثلاث.

دول الخليج التي بدأت متأخرة في بناء هيكليتها وتأطيرها وتركيزها تعطينا مرة أخرى درسا في الدبلوماسية والاستراتيجية يحمل أكثر من بعد ورسالة ويكفي أن نقول إننا انتظرنا لسنوات طويلة خطوة من هذا النوع مصدرها الشرق الأوسط ودوله المحورية لتضع حدا للصراع العربي ـ الإسرائيلي والنزاعات العربية ـ العربية والعربية ـ الأفريقية والأفريقية ـ الأفريقية التي تؤلم وتحزن لكن المفاجأة جاءت من الخليج هذه المرة آملين أن تعم وتنتشر وتكون هي مركز الانطلاق لحل هذه الخلافات ومعالجتها.

القيادة الايرانية التي تعلن دائما انها تتصدى للمخططات الأميركية في الخليج وتردد أن مشروعها النووي هو حلقة في خطة الدفاع عن الخليج وأمنه ستقول نعم لمثل هذه الاتفاقيات بين شعوب العالم الاسلامي، ورغم كل ما تحمله الوثيقة من كلمات مقلقة مثل التعاون والتنسيق «الاستراتيجي الشامل» والمفتوح و«المحورية» فاننا على ثقة انها ستثير الغيرة وليس الحفيظة وستكون سببا لاستفزاز البعض للاسراع في قبول التعاون والمشاركة وليس التهديد والتصعيد والمقاطعة.

* كاتب وأكاديمي تركي