مربع «أمني ـ سياسي» جديد

TT

هل كانت قمة دمشق الرباعية بين سورية وتركيا وفرنسا وقطر لقاء دوليا عابرا اقتضته شكليات تسويق السلام السوري ـ الاسرائيلي أم منعطفا مستجدا على موقع تركيا بالذات في خريطة الشرق الاوسط؟

التقارب التركي ـ السوري (تحت العباءة الفرنسية ـ القطرية) قد يبدو حصيلة حاجة سورية الى نافذة تطل منها على واشنطن ولكنه لم يكن ممكنا لولا تزامنه مع تحول في الافق الدبلوماسي التركي لا يزال في مطلع عهده: التحول عن دبلوماسية «المدى الاوروبي» الى دبلوماسية «العمق الشرق أوسطي»... بمباركة أميركية غير معلنة ووكالة فرنسية واضحة، نتيجة فشل مسعى تركيا المضني للحصول على الهوية الأوروبية.

ولكن، إذا كان هذا الفشل يعود، جزئيا، الى «حساسية» الاوروبيين حيال خلفية تركيا الاسلامية ـ التي ضخمها خلط الغرب بين الاسلام و«الارهاب» وتخوف الاوروبيين من موجة هجرة اسلامية تحدث خللا ديموغرافيا عميقا في مجتمعاتها ـ فانه يعود في قسط كبير منه الى فتور حماس واشنطن لمواصلة تسويق عضوية تركيا الكاملة في الاتحاد الاوروبي بعد أحداث 11 سبتمبر2001. (والمفارقة الواجب تسجيلها في هذا السياق أن جزءا من التردد الاوروبي في قبول عضوية تركيا في الاتحاد مرده علاقتها الاطلسية اللصيقة بالولايات المتحدة الى حد تصويرها وكأنها ستكون «حصان طروادة» أميركي داخل العائلة الاوروبية).

على هذه الخلفية لا يبدو التقارب التركي ـ السوري شكلا من أشكال «الرفاه الدبلوماسي» بين طرفين إقليميين اكتشفا أخيرا انهما متجاوران جغرافيا ومتقاربان تراثيا، بل تحولا دبلوماسيا تركيا، بالدرجة الاولى، يجري برعاية اميركية عامة ووكالة فرنسية خاصة.

مع ذلك لم يكن هذا التحول مجانيا، فقد سبقه تعويض فرنسي لانقرة تمثل في ضمان الرئيس ساركوزي لعضوية تركيا في «الاتحاد من أجل المتوسط»، وفي نيلها الضوء الاخضر من الولايات المتحدة لرعاية مفاوضات السلام السورية ـ الاسرائيلية في مراحلها الاولى على الاقل.

وفي هذا السياق أيضا لا تبدو مجرد صدفة أن تحسن تركيا ـ فجأة ـ علاقاتها مع جارتها اللدود أرمينيا، وأن تتوثق العلاقات الخليجية ـ التركية لتبلغ حد الحديث عن إقامة منطقة للتجارة الحرة بين الجانبين قد تتطور الى «فسحة اقتصادية ـ سياسية» اقليمية، وأن يتزامن هذا التقارب مع مرحلة اقتصادية مزدهرة تحصد فيها دول الخليج مردود السخاء الجيولوجي لأرضها وفرة مالية لم يسبق أن اختبرتها من قبل. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا التقاطع السياسي هو: هل سيقتصر الدور التركي الجديد في الشرق الاوسط على رعاية المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية ام انه مرشح لان يتعداه الى دور «اساسي»، سياسي واستراتيجي كثقل مضاد (Counter weight) لايران في المنطقة؟

قد يبدو مردود هذه الوكالة الجديدة لتركيا ايجابيا على المدى القريب ولكنه يؤذن، على المدى الطويل، بانتقال موقع القرار الشرق اوسطي من دول الجامعة العربية الى تركيا في إطار «المربع الامني ـ السياسي» الجديد.

هل تحسب العرب لابعاد الوكالة التركية في وقت لا يبدو فيه مستقبل القرار العربي المستقل واعدا في المنطقة؟ قد لا يكون من المبالغة القول انه في ظل المد الفارسي الصدامي والتشرذم العراقي المذهبي والجغرافي القومي ـ المذهبي في لبنان والقوة النووية لاسرائيل... لم يبق من عروبة الشرق الاوسط سوى لغته والوفرة المالية التي أمنتها فورة اسعار النفط والغاز. وهنا بيت القصيد، فمع التسليم بأن المستفيد الأول من فورة النفط المالية يجب ان يكون دول الخليج وشعوبها، يبدو الحجم الراهن، والمتنامي، لسيولتها أوسع من طاقة اقتصادياتها المحلية على استيعابه (مؤسسة «Mc Kinsey Global Institute» تقدر أن استقرار سعر برميل النفط بحدود المائة دولار سوف يدر على دول الخليج، بحلول العام 2020، عائدات مالية تصل الى 9 تريليونات دولار).

باختصار، مجلس التعاون الخليجي يعتبر اليوم منظومة مالية عظمى يكفي ان تكشف عن «مخالبها» المالية لتثبت وجودها على الساحة الشرق أوسطية وحتى الدولية. الوفرة المالية لدول الخليج العربية هي سلاح الاحتياط العربي لتمويل «الاستقرار» الاقتصادي والسياسي، في العراق اولا والمنطقة كلها، ثانيا، ولنسج علاقات تنطلق من المصالح العربية المشتركة...هذا إن هم أحسنوا توظيفها.