العواجي والخطيب وبن حثلين

TT

كان شعورا بالمسؤولية حين أمر رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة ـ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان ـ بوقف المسلسل التاريخي «سعدون العواجي»، الذي تعرضه قناة أبوظبي خلال شهر رمضان الكريم، والمسلسل يحكي قصة صراع بين الفارسين سعدون العواجي العنزي وهايس القعيط الشمري في القرن الثامن عشر.

والحق أن الجدل الذي دار حول المسلسل يفتح جروحا في طريقة تعاملنا مع التاريخ، وأخرى في كيفية التعامل مع أحداثه من خلال الأعمال الفنية.

سألني صديق عن الطريقة المثلى لتخليد البطل الأسطوري راكان بن حثلين العجمي، من خلال عمل فني درامي يسجل ملحمة هذا الفارس العربي. فقلت له بكل صراحة أن العمل سوف يصطدم بتساؤلات ـ عوائق: كيف يمكن أن تسرد عملا بطوليا لراكان من دون المرور أو الإشارة إلى صراعاته مع القبائل الأخرى؟ وكيف يمكن لك أن تصور عملا لراكان بن حثلين من دون أن يكون للمرأة دور بارز في هذا العمل؟ وأية امرأة تلك التي سيصورها المسلسل من النساء اللاتي عايشن بن حثلين؟

فقال لي: لم لا نركز فقط على قصة مقاومته للأتراك وأسره غدرا من قبلهم ومعاناته داخل الأسر بالاستانة؟ فقلت: حسنا، وكيف ستتعامل مع وجهة خروجه وما حصل لزوجته بعد انقطاع أخباره؟ وتساؤلات إن تجاهلتها، فكأنما تجاهلت ـ أو ربما زورت التاريخ، وإن أجبت عنها، فقد أثرت نعرات وجدلا لا تحتمله أمة تروي التاريخ ولا تسجله.

استقينا كثيرا من أحداث تاريخنا من السرد، وعن فلان عن فلان عن أبيه قال حدثنا فلان بن فلان...الخ، ومن المؤكد أن ثورة المعلومات والتسجيلات والتصوير ستنهي هذه الحالة، وسيأتي جيل لن يكترث لهذا الأسلوب القديم في تسجيل الأحداث عن طريق السرد القصصي: (كان يا ما كان في قديم الزمان)، أو الروائي: (قال الراوي يا سادة يا كرام). فلا جدال بعد ألف عام من الآن حول نهاية صدام حسين مثلا: فقيل بأنه قاتل قتال الأبطال حتى نفذت ذخيرته فأطلق النار من مسدسه على رأسه خشية الوقوع في الأسر! وقيل بأنه اختبأ في جحر في شمال بغداد حتى ألقي القبض عليه كأرنب في جحرها!

الدكتور أحمد الخطيب ـ شخصية كويتية لها تاريخ طويل في النضال القومي والوطني امتد لأكثر من ستة عقود، وقد ناهز الثمانين من العمر بتجربة ثرية نادرة في المنطقة، اقتنع الدكتور «أخيرا» مشكورا بكتابة تجربته في العمل السياسي، التي تأثرت بها أجيال عايشت الدكتور الخطيب وأخرى لا تزال متأثرة ببصماته في العمل السياسي والبرلماني الكويتي. ظهر الجزء الأول من المذكرات قبل سنتين تقريبا، والثاني تنشره إحدى الصحف المحلية على حلقات هذه الأيام. وقد أثار نشر المذكرات جدلا في البداية قاد الحكومة إلى منعها، ثم إلى السماح بها بعدما تداولتها المنتديات الإنترنتية، وها هو الجزء الثاني يثير جدلا آخر حول بعض أحداثه. لم تنته السلسلة بعد قبل الحكم عليها، ولكن المؤكد أن العمل التسجيلي الذي لا يثير جدلا يعني: إما أنه لم يقرأ، أو أنه لا يستحق الجدل حوله. لكن المسألة حول كيفية تناول النقد للمذكرات، فأكثر من لم يعجبه فحواها هاجم الدكتور هجوما شخصيا أكثر من نقده لها أو لأسلوبها.

ردود أفعالنا على الأعمال التاريخية تعكس طريقة تفكيرنا في فهم التاريخ بمجمله. فالتاريخ بالنسبة لنا قيمة جميلة لا نريد مساءلة أحداث، وبالتالي فإن المساس بوقائعه ومحاولة التساؤل عن مدى صحتها يقلق تفكيرنا، ويحدث لنا حساسية وصدمة تفكير، لكن التكنولوجيا كفيلة بالقضاء على الرومانسية التاريخية التي تعشش في عقولنا الحساسة..

اصبروا بضعة قرون وسترون الفرق!