المسؤولية العربية في الموضوع الفلسطيني

TT

ألزمت الدول العربية نفسها، في الاجتماع الأخير لجامعة الدول العربية، بتقديم دعم للسلطة الفلسطينية في مفاوضاتها مع إسرائيل، وذلك بعد أن وصف بيان الجامعة الختامي تلك المفاوضات بأنها مفاوضات «بائسة». ويتمثل الدعم الذي تعهدت به الدول العربية بأربع نقاط:

أولا: القيام بعمل سياسي ضاغط في الأمم المتحدة، من خلال طلب جلسة خاصة لمجلس الأمن، تناقش قضية الاستيطان الإسرائيلي، من أجل وضع حد لها مدعوم بقرار دولي. ويتفرع عن ذلك عمل مواز تقوم به الدول العربية في منظمة الأونيسكو بخصوص ما يتعلق بالحفريات الإسرائيلية في جوار المسجد الأقصى.

ثانيا: إجراء اتصالات دولية، من المنطقي أن تكون مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، بخصوص «المفاوضات ونتائجها البائسة حتى الآن»، من أجل الضغط على إسرائيل التي تتشدد في قضيتي: القدس وحق العودة للاجئين.

ثالثا: تدعيم الجهود العربية، وبخاصة المصرية، من أجل المصالحة الفلسطينية.

رابعا: عقد اجتماع بعد شهر أو شهرين لدراسة الوضع وتقويمه.

وقد جاء الالتزام بهذه الخطة، بعد أن قام الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالمشاركة بشكل فعال في مناقشات الجامعة العربية، عارضا عليهم بالوقائع الصريحة، مأزق المفاوضات، ومأزق المصالحة الفلسطينية (بين رام الله وغزة)، والتي أصبحت ضرورة سياسية. ومن الواضح أن الجامعة العربية قد تجاوبت مع شروح ومطالب الرئيس عباس، فقدمت له خطة التحرك العملي ببنودها الأربعة الواردة أعلاه، كما قدمت له في البيان الختامي دعما صريحا للموقف المتعلق بحل الخلافات الداخلية، استعمل لأول مرة، وخلافا لتقاليد الجامعة العربية ولغتها الدبلوماسية، لغة تهديدية، للطرف أو للأطراف التي تعرقل نجاح مساعي الوساطة المصرية، وصل إلى حد الحديث عن عقوبات.

يرتبط الحديث الفلسطيني ـ العربي عن أزمة المفاوضات، وضرورة التحرك دوليا من أجل دعمها، بمسائل محددة، فبالإضافة إلى أن إسرائيل تعرقل إمكانية التوصل إلى صيغة مقبولة في قضيتي حق العودة والقدس، تشهد المفاوضات ضغطا أميركيا تقوده وزيرة الخارجية كونداليزا رايس، من أجل إعداد «اتفاق ما» بين الفلسطينيين وإسرائيل، لتقدمه إلى الرئيس الأميركي جورج بوش، لكي يتولى عرضه كإنجاز لإدارته في الخطاب الذي سيلقيه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 23/9/2008، ولكي يتداول بشأنه مع الرئيس الفلسطيني الذي سيلتقيه بعد خطابه بثلاثة أيام.

الاتفاق الذي تسعى إليه كونداليزا رايس، وتمارس ضغوطا كبيرة من أجله، لا يلبي مطالب الرئيس الفلسطيني، الذي يتطلع إلى اتفاق يشمل جميع القضايا الأساسية، ويبلور كيفية التوجه إليها، وفي المقدمة منها قضية القدس وقضية اللاجئين، بينما تطلب رايس الاكتفاء بالإشارة إلى القضايا المختلف عليها، وعرض وجهة نظر كل طرف بشأنها، وذلك إكراما لعيون الرئيس الأميركي من أجل أن يقدم إنجازه لـ«السلام» أمام الأمم المتحدة، ومن أجل أن يكون إنجاز السلام هذا خاتمة لعهده، بديلا عن نهج الحروب الذي اشتهر به. ويرضي هذا التوجه الأميركي مطالب إسرائيل التي أعلنت رسميا أن قضية القدس خارج إطار المفاوضات، والتي بدأت تسرب معلومات صحفية تقول بأنها مستعدة لتقديم عروض بشأن القدس تكرر ما سبق وعرض في مفاوضات كامب ديفيد 2000، ورفضها الرئيس الراحل ياسر عرفات في حينه. وخلاصتها أن تبقى القدس ومسجدها الأقصى تحت السيادة الإسرائيلية، مع تقديم مكتب «محترم» حسب الوصف الإسرائيلي، لرئيس السلطة الفلسطينية لكي يستقبل فيه ضيوفه. أما المسجد الأقصى فلا بأس أن تكون هناك مشاركة فلسطينية أو حتى عربية في إدارة شؤونه الدينية، ولكن السيادة تبقى لإسرائيل، وتبقى خارج موضوع البحث والتفاوض. ويبدو أن معضلة القدس بالذات هي التي دفعت الرئيس الفلسطيني أن يذهب (ضارعا فارعا) إلى الجامعة العربية، طالبا دعم العرب لموقفه، فهو يدرك مثلما أدرك عرفات من قبل، أن أحدا لا يستطيع أن يتحمل وزر التنازل في موضوع القدس، لا سياسيا ولا وطنيا ولا تاريخيا.

أما الحديث الفلسطيني ـ العربي في قضية الوحدة الوطنية وحل الخلافات الداخلية، فله مسار آخر. وبعيدا عن الوعيد والتهديد، فإن قرار الجامعة وضع قاعدتين للتعامل مع هذه المسألة:

القاعدة الأولى: احترام الشرعية الوطنية الفلسطينية برئاسة الرئيس محمود عباس. وهذه قضية لا خلاف عليها (الآن)، لا عربيا ولا فلسطينيا. وقد ينشأ حولها خلاف قانوني في الأيام الأول من العام المقبل، حين تنتهي ولاية السنوات الأربع لرئاسة الرئيس محمود عباس، وتكون هناك ضرورة لانتخاب رئيس جديد. وإذا لم تجر هذه الانتخابات في حينه فإن عزيز الدويك رئيس المجلس التشريعي (المعتقل حاليا لدى إسرائيل)، يكون هو رئيس السلطة إلى أن تجري الانتخابات.

القاعدة الثانية: احترام المؤسسات الشرعية للسلطة الفلسطينية المنبثقة من منظمة التحرير الفلسطينية. وهذه قضية قد يبرز خلاف حولها حين تصل إلى مرحلة التحديد والتوضيح والتطبيق، فإذا أرادت الجامعة العربية احترام المؤسسات الشرعية للسلطة، فإن هذا يشمل احترام ثلاث مسائل: اولا احترام نتائج الانتخابات الفلسطينية التي غيرت ميزان القوى الفلسطيني. ثانيا احترام الحكومة الفلسطينية التي تشكلت بناء على نتائج تلك الانتخابات (وعلى نتائج اتفاق مكة)، وهي حكومة اسماعيل هنية المقالة.

ثالثا: احترام القانون الفلسطيني (الدستور) الذي يقول بأن الحكومة المقالة تصبح هي حكومة تسيير الأعمال وليست حكومة اسماعيل فياض المعتمدة من الرئاسة الفلسطينية.

وإذا لم يتم الالتزام بهذه الاحترامات الثلاثة، فإن المضي بالأمر خطوة أخرى سيعني أن تؤيد الدول العربية ما تم اعتماده في ظل انفجار الخلاف الفلسطيني، أي لجوء الرئاسة الفلسطينية إلى تجاوز المجلس التشريعي، واعتماد سياسة الحكم بـ«المراسيم» الرئاسية بدلا من المؤسسات الشرعية القائمة. وهنا تكون الأطراف العربية قد انحازت إلى طرف دون آخر، وسيعرقل هذا بالطبع مساعي الوساطة العربية والمصرية. فماذا سيكون القرار العربي في هذه المسألة بالذات؟

لا بد أن نلاحظ هنا، أن الرئيس محمود عباس بعث برسالة إلى الرئيس حسني مبارك، تضمنت خطته للمصالحة الفلسطينية، وهي تقوم على أساس: التراجع عما حدث، وإنشاء حكومة تكنوقراط (أي إبعاد حماس من الحكومة)، والذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية (أي إلغاء وتجميد المجلس التشريعي القائم). وحين جاءت الفصائل الفدائية إلى المفاوضات في مصر، كررت كلها (ما عدا حركة الجهاد) المطالب كما وردت في رسالة الرئيس عباس. ومن المؤكد أن اعتماد هذا النهج لن يلقى قبولا لدى حركة حماس، لأنه يؤدي إلى تهميشها وإلغاء دورها السياسي. ومهمة الوساطة العربية والمصرية أن تجد حلا لهذه المعضلة، وإلا فإن الفشل سيكون نتيجتها الوحيدة.

ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن الكثير من الفلسطينيين باتوا على قناعة بأن ما يسمى الفصائل الفدائية، والتي لم تحصل في الانتخابات التشريعية الأخيرة على أكثر من 2% من الأصوات، قد أصبحت مجرد أدوات في يد من يرغب في استخدامها، ومهمتها تأجيج الخلاف بين حركتي فتح وحماس، تحت ستار تقديم مشاريع حل تخدم طرفا دون آخر. وهذا يعني أن الحوار الحقيقي المطلوب يجب أن يكون بين هاتين الحركتين، وصولا إلى صيغة تفاهم بينهما تنهي الخلاف القائم. ومصر بوزنها العربي الكبير، وبمعرفتها الدقيقة بموازين القوى الفلسطينية، قادرة أكثر من غيرها على معرفة هذا الواقع الفلسطيني بدقة، وقادرة أكثر من غيرها على اقتراح حلول تتجاوز ألاعيب بعض الفصائل التي وصل بها الانحياز (الجبهة الديمقراطية) إلى حد الإعلان عن رفض اتفاق مكة، ورفض اتفاق المصالحة في صنعاء، لأنه لا يعطيها دورا مباشرا في إطار عملية المصالحة، وهي التي لم تستطع إيصال أكثر من شخص واحد إلى المجلس التشريعي.

ومهمة الجامعة العربية في اجتماعها المقبل الذي ألزمت نفسها به، أن ترى الوضع الفلسطيني بشموليته، وأن تراه بمنظار موازين القوى الحقيقية على الأرض، بعيدا عن منهج عد أصوات لفصائل لم يعد لها وجود في الشارع الفلسطيني، بينما هي تصر على مواصلة العيش على أمجاد مرحلة مضت. وهذا يعني في التطبيق رعاية حوار جاد بين حركتي فتح وحماس، والالتزام فعليا بما قررته الجامعة نفسها، أي احترام المؤسسات الشرعية الفلسطينية كلها.