«اصحى للون»!

TT

يراهن الكثيرون على أن العراق والاقتصاد هما من أهم القضايا التي ستحسم نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر 2008 بين المرشحين الأساسيين للرئاسة الأميركية: الجمهوري جون ماكين والديموقراطي باراك أوباما. لكن ما رأيناه بالأمس القريب هو أن الألوان ربما تكون هي الحاسمة: الأحمر والأبيض والأسود. باراك أوباما وجد نفسه في ورطة إعلامية يوم الخميس الفائت عندما قال عن سياسات الرئيس جورج بوش بأنها سيئة ولا يمكن تجميلها مهما صبغت بمساحيق التجميل، واستخدم لذلك مثلا أميركيا دارجا يقول: «الخنزير يبقى خنزيرا حتى لو لونت شفتيه بصباغ شفاه». وهو مثل أشبه في مضمونه لما تقوله جماعتي في الصعيد «تعمل إيه الماشطة في وش الشوم».

وسياسات بوش من وجهة نظر الديموقراطيين هي سياسات شؤم على أميركا، وربما يتفق معهم في ذلك الكثير من المستقلين. ولكن ما الجديد في ذلك؟ الجديد هو أن أوباما لم يكن موفقا عندما اختار هذا المثل المرتبط بصباغ الشفاه، والذي وجد فيه بعض الأميركيين إهانة للمرأة وتلميحا غير بريء إلى نائبة جون ماكين، حاكمة ولاية آلاسكا، سارة بيلن. تلك المرأة التي حذرت الديموقراطيين بألا ينخدعوا بأنوثتها فهي، على حد قولها، أشبه بكلب «البيت بول» الشرس، الذي يخفي شراسته بصباغ شفاه!

غلطة أوباما أنه ابتلع طعم اللون في صباغ الشفاه الذي وضعه الجمهوريون أمامه، صباغ الشفاه مرتبط بالألوان، وعندما وقع أوباما في فخ الحديث عن الألوان، فتحت عليه جماعات الضغط نيرانها وتلقف الإعلام السقطة. فهي فرصة الآن للتحدث عن اللون، الحديث هذه المرة عن صباغ الشفاه آمن ومحمود العواقب ما دام لا يشمل اللونين الأسود والأبيض لما لهما من ارتباط بتاريخ العنصرية الأميركية، ولكنه قد يكون مقدمة يسعى إليها الكثير من الأميركيين لإدخال اللونين الأبيض والأسود بمعناهما العنصري على ساحة الحوار. لونان بقيا خارج الحوار عمدا في فترة الانتخابات التمهيدية ولكنهما سيزحفان بقوة كلما اقتربنا من خط النهاية لهذا السباق الشرس والذي ربما تستخدم فيه كل الأسلحة كلما زادت فرص وصول الرجل الأسود إلى البيت الأبيض. أوباما المرشح فقط لا يمثل تهديدا للأميركيين البيض، ولكنه كلما أصبح أكثر قربا من الجلوس على كرسي رئاسة الدولة العظمى الوحيدة، كلما دفعت الغرائز أصحابها نحو منزلق بدائي وعنصري تكون الألوان فيه هي الفيصل.

سارة بيلن هي سلاح الجمهوريين ضد أوباما لكسب الضمير الأميركي، فإذا كان أوباما هو الرجل الأسود المظلوم في أميركا البيضاء، فسارة بيلن تستطيع كسب التعاطف من زاوية لا تقل قوة، فهي إمرأة في أميركا التي يسيطر الرجال بقوة على حياتها السياسية. بيلن ضخت دما جديدا في شرايين الحزب الجمهوري، وكان ذلك واضحا في استقبال الجمهور لقرار ماكين ترشيحها نائبة له في واحدة من جولاته الانتخابية في ولاية أوهايوا المتأرجحة، وهي الولاية ذاتها التي حسمت الانتخابات الأميركية في الدورتين الماضيتين.

جون ماكين اختار سارة بيلن بما يشبه حالة انقلاب سياسي وإعلامي، ليس لجمالها، وإنما لأهداف سياسية محددة منها استقطاب أصوات النساء اللواتي خاب أملهن بخروج هيلاري كلينتون من سباق الرئاسة، والبالغ عددهن أكثر من عشرة ملايين ناخبة، أي أن الهدف هو كسب صوت المرأة البيضاء. فأحد جوانب الأمر هو الدخول إلى التحيز العرقي للون من بوابة تبدو حضارية في الظاهر، بوابة مناصرة المرأة في مجتمع تسيده الرجال لزمن طويل وتقدير خبراتها المختلفة في الإدارة والسياسة. وفي السياسة، كما في بولندا، كل شيء مباح وكل شيء ممكن. إذن، رغم أن الأمر يبدو مرتبطا بالمرأة، إلا أن الموضوع برمته مرتبط باللون. وكلمة السر في هذه الانتخابات هي المرأة البيضاء. المرأة البيضاء ستجد مبررا مقبولا بأن تصوت ضد أوباما من دون أن يتهمها أحد بالعنصرية ضد اللون الأسود أو أن تشعر بأزمة أخلاقية وتأنيب ضمير، فحجتها هي أنها صوتت للمرأة وليس للعرق وليس لأنها تنظر بدونية للون الأسود.

بالطبع هناك أسباب أخرى لاختيار بيلن، أحدها أن ماكين أراد أن يرد على الانتقاد السائد بأنه (رجل عجوز) لا يمتلك رؤية الشباب التي تؤمن بالتغيير الذي جعله أوباما شعارا لحملته، لذا اختار نائبة له تبلغ من العمر أربعة وأربعين عاما فقط، أي أنها تصغر المرشح الديمقراطي بثلاثة أعوام. وهكذا اختار كل من المرشحين ما ليس لديه، فأوباما المتهم بعدم الخبرة اختار (السناتور العجوز) جو بايدن نائبا له ليرفع عنه تهمة عدم الخبرة، في حين اختار ماكين الشابة الإصلاحية سارة بيلن التي لم تمض أكثر من عامين في منصبها كحاكمة لولاية آلاسكا الغنية بالبترول والفقيرة في تعداد السكان. كل ذلك قد يكون مهما، لكنني أعتقد جازما بأن الانتخابات الأميركية هذه المرة هي انتخابات ليست على السياسات وإنما على اللون.

من لا يعرفون الولايات المتحدة، يصدقون استطلاعات الرأي التي تشير إلى تقدم باراك أوباما على جون ماكين، لكنني كرجل عاش في الولايات المتحدة لمدة عشرين عاما، دراسة وتدريسا، أقول بأن مسألة اللون والعنصرية في المجتمع الأميركي متجذرة أعمق بكثير مما يتصوره المراقبون من الخارج، أو ما يتمناه المحللون الأميركيون في الداخل. في الانتخابات العامة وعندما ستتاح للمواطن الأميركي فرصة الإدلاء بصوته بمفرده في سرية تامة، سيفاجئنا موضوع اللون، إما سلبا أو إيجابا. أنا شخصيا أتمنى أن يكون الأميركيون البيض قد تخلصوا فعلا من تراث عنصري بغيض، ولكن لدي شك كبير في ذلك. في مجتمع مازالت تتجذر فيه الفوارق بين البيض والسود في عنصرية كامنة يحاول التغطية عليها بمظاهر الحداثة، ليس مستبعدا أن يقول الناس في العلن بأنهم ليسوا عنصريين، وأن يسجلوا في الوقت نفسه مواقفهم العنصرية في السر وفي صناديق الاقتراع، أو عندما يلتقون ببني جلدتهم. صناديق الاقتراع السرية وكذلك وجود المرشحة المرأة كنائب للرئيس، ستسمحان بتمرير المواقف العنصرية تحت مسمى مناصرة المرأة، المرأة البيضاء المرشحة ستمنح الكثيرين فرصة بأن يسجلوا عنصريتهم تحت غطاء لماع جديد.

المؤشر الحقيقي لدور العنصرية العرقية في هذه الانتخابات، هو ما حدث في ولاية «وست فرجينيا» أثناء الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي، تلك الولاية الأكثر بياضا من حيث نسبة السكان فيها، فقد اكتسحتها هيلاري كلينتون تماما ولم يحصل فيها أوباما على أي أصوات تذكر. أميركا كلها لا تختلف في هذا المجال عن «وست فرجينيا» إلا بدرجات بسيطة التفاوت. ورغم ظروف الاقتصاد الأميركي وفقر الولاية، إلا أن ذلك لم يكن هو الحاسم في أصوات أبنائها، الأمر كله كان متعلقا باللون. لذا أقول لمن يريد أن يفهم هذه الانتخابات، وقبل أن يتعب نفسه في قراءة مؤشرات الاقتصاد والتقاسيم الإدارية للولايات وتأثير حرب العراق، أن ما يفيدك في فهم الانتخابات الأميركية الحالية هو التنبه لحكمة أولاد البلد القائلة: «اصحى للون!».