أوسيتيا الجنوبيّة وأبخازيا.. وخطر تغيير الحدود

TT

بعد الحرب العالميّة الثانيّة، وترسّخ آليّات الحرب الباردة، كان الاتفاق الضمنيّ بعد مؤتمر يالطا بين الكبار، بعدم تغيير الحدود من جانب واحد.

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تغيّرت آليّات اللعبة الكبرى، لكن مفهوم تغيير الحدود بقي صامدا، حتى اجتياح صدّام حسين للكويت. لكن الكبار اعادوا صدّام إلى عقاله وحدوده في اكبر تحالف عسكريّ عرفه التاريخ.

تغيّر هذا الأمر مع تفكّك يوغوسلافيّا إلى جمهوريّات متعدّدة، خاصة مع حالة كوسوفو. لكن موضوع تغيير الحدود، ظلّ امرا محظورا، الأمر الذي ورد في اتّفاق دايتون العام 1995. مع إعلان كوسوفو الاستقلال، وبعد الاعتراف المباشر بهذا الاستقلال من اللاعبين الكبار، ورفض روسيا لهذا الاستقلال، راحت روسيا تعدّ العدّة للردّ على سلوك الغرب. باختصار، شعرت بأن الغرب لا يأخذها على محمل الجدّ. فالغرب قد وسّع الناتو حتى حدودها، وذلك رغم وعد الرئيس كلينتون للرئيس يلتسين بعدم التوسّع، كما وعد الناتو بضمّ كلّ من جورجيا واوكرانيا في موعد قريب، وهذا خطر مباشر على الامن القوميّ الروسيّ، خاصة اوكرانيا التي تعتبر دولة عازلة لروسيا. كذلك، خاض الناتو حربا ضروسا ضدّ صربيا حليفة روسيا فدمّرها. لكن الخطر الاهمّ، كان في المشاريع الغربيّة لتجاوز روسيا كممرّ اساسيّ لأنابيب النفط. وأخيرا وليس آخرا، اكتملت منظومة الاستهزاء بروسيا عبر تركيب شبكة الصواريخ المضادة للصواريخ في كلّ من بولندا وتشيكيا.

إذاً ما نراه اليوم، هو ليس بنت ساعته، لا بل هو نتيجة تراكمات طويلة منذ العام، 1989 عام سقوط الدبّ الروسيّ.

بعد كوسوفو، بدء العام ينتظر كيفيّة الردّ الروسيّ. فكان من الطبيعيّ والاسهل بالمعنى الاستراتيجيّ والعسكريّ، ان تردّ روسيا في محيطها المباشر، فقط لأن تداعيات هذا الردّ سوف تكون مدوية ـ خاصة في الطاقة.

اعطت جورجيا الشرارة اللازمة لروسيا فكان ما كان. فماذا عن تداعيات العمل الروسيّ، وما هي القدرة الروسيّة للردّ في امكنة أخرى؟ كذلك، ماذا عن منظّمة التعاون شانغهاي ـ SCO؟ واين تتقاطع المصالح الروسيّة ـ الصينيّة، واين تتضارب؟

تقوم الاستراتيجيّة الكبرى، أو بالأحرى الجيوبوليتيك الأميركي على الأسس الآتية:

1 ـ منع قيام أي تحالف اوراسي ـ خاصة الصين وروسيا ـ من هنا تستشمّ اميركا خطر استكمال ترسّخ منظّمة شانغهاي للتعاون.

2 ـ استمرار السيطرة على البحار ـ لذلك تملك اميركا 12 حاملة طائرات.

3 ـ وأخيرا وليس آخرا، خوض كلّ الحروب على أراض بعيدة عن البرّ الاميركي. هذا مع التذكير بأن اميركا محميّة بمحيطين، وبجيران مسالمين، الأمر الذي يعطيها حريّة التركيز على قارات أخرى.

مقابل هذه الاستراتيجيّة الكبرى الأميركيّة، تستند الاستراتيجيّة الروسيّة في حدّها الأدنى الى الأسس الآتية:

1 ـ تأمين مستمرّ لمناطق النفوذ في المحيط المباشر، خاصة اوكرانيا، لأنها الخاصرة الطريّة.

2 ـ إبعاد التأثير الأميركي عن هذا المحيط، وحتى إخراجه من اللعبة في آسيا الوسطى.

3 ـ سيطرة الدولة على الطاقة ونقلها، لأن الطاقة توفر المال، والمال يُعطي تأثيرا في الداخل كما في الخارج، كما يُساعد على: إعادة تأهيل الجيش، الاستغناء عن الغرب، كما على استرداد الهيبة الروسيّة.

بدأ الغرب ردّا على الحرب على جورجيا بتباشير ردّه عبر الحشد البحري في البحر الأسود. وكأنه بذلك، يريد استباق النيات الروسيّة في اوكرانيا، خاصة ان الممرّ الاوكراني يُعتبر الخاصرة الطريّة لروسيا ومنها حاول هتلر الوصول إلى موسكو.

واصلت روسيا المفاجآت، ففتحت صندوق باندورا عليها وعلى العالم، خاصة بعد ان اعترفت بأوسيتيا الجنوبيّة وابخازيا كدولتين مستقلّتين. فماذا عن هذا الأمر؟

1 ـ من الغريب ان تعترف روسيا بهاتين المقاطعتين، وهي التي تعاني حركات انفصاليّة في الكثير من جمهوريّاتها: الشيشان، انغوشتيا، شركيسيا وداغستان وغيرها. لكن الردّ قد يكون ان روسيا قادرة على السيطرة على هذه الجمهوريّات، سواء عبر المال أو عبر القوّة العسكريّة. فهي دمّرت الشيشان إلى درجة جعلتها تستخدم لواء شيشانيّا في الحرب على جورجيا. كذلك، إن الدخول الروسيّ لدولة ذات سيادة بالقوّة العسكريّة، يجعل الجمهوريّات الداخليّة التي تعتبر شأنا داخليّا روسيّا اكثر خوفا على الذات. وبذلك تكون روسيا قد أوجدت سابقة في جورجيا، كما تكون قد أنشأت منطقة عازلة لها، ورأس جسر مُطلاً على ما تبقّى من جورجيا، الأمر الذي يفتح لها باب الخليج العربي عبر ايران واسعا. وبدل ان تطوّق اميركا روسيا في البحر الأسود، ها هي تطلّ من خلفيّة الانتشار الاميركي في العراق.

2 ـ في اوكرانيا، سرت شائعات كثيرة تقول ان روسيا بدأت بتوزيع جوازات سفر روسيّة على الاوكرانيّين من اصل روسي، خاصة في منطقة القرم ـ هم الغالبية هناك ـ حيث مقّر قيادة الاسطول الروسيّ البحري في البحر الاسود. فهل تنوي هذه المنطقة الانفصال ايضا عن اوكرانيا، حيث الاعتراف الروسيّ جاهز؟

3 ـ إذا انتقلنا إلى منطقة البلطيق، فالتأثير الروسي ايضا له شأن، خاصة عبر السكّان من اصل روسيّ. فمشروع ستالين بإسكان روس في تلك الدول لتغيير ديموغرافيّتها، بدأ اليوم يُعطي ثماره. فعل سبيل المثال، 30% من سكّان استونيا هم من اصل روسيّ، 40% في لاتفيا و9% في ليتوانيا. لكن ما يحمي هذه الدول عسكريّا حتى الآن، هو انها اعضاء في حلف الناتو رسميّا. لكنها من جانب آخر، تعتمد على النفط الروسيّ عبر خطّ أنابيب «دروزبا»، الأمر الذي يساعد روسيا على معاقبتها عند الحاجة. فهل سنرى لاحقا ثورات روسيّة من داخل هذه الدول؟

4 ـ وأخيرا وليس آخرا، قد تقطع روسيا عن حلف الناتو كلّ خطوط امداداته والتي تمرّ عبرها إلى افغانستان.

تسعى اليوم روسيا لحشد الدعم من منظّمة شانغهاي في ما خصّ حربها على جورجيا. هذا مع التذكير بأن الهدف المخفيّ لهذه المنظّمة، هو إخراج اميركا من آسيا الوسطى، وبالتالي من محيط روسيا المباشر.

لكن الدعم المُطلق لم يأت، ولن يأتي من هذه الدول خاصة من الصين، للأسباب التاليّة:

1 ـ هناك فارق كبير بين روسيا والصين في ما خصّ العلاقة مع اميركا والغرب، لكن لماذا؟

أ ـ يهمّ روسيا الانضمام إلى منظّمة التجارة العالميّة، فسلعتها الاستراتيجيّة الاهمّ اليوم هي الطاقة، وليس لديها هاجس عدم بيعها، فالكلّ يريدها ودون ان يسأل حتّى.

ب ـ أما الصين، فهي بحاجة إلى الأسواق الأميركيّة والغربيّة لبيع بضائعها، لأن الاقتصاد الصيني يقوم على الانتاج والتصدير. وهنا، قد يمكن القول ان الصين واقعة في معضلة. فهي تنافس اميركا، لكنها في حاجة إلى السوق الاميركي كي يستمرّ نموّها. وعندما تكدّس الارباح بالدولار الاميركي، تعود لاستثمارها في اميركا ايضا ـ إذاً هي تنافس وتغذيّ منافسها في الوقت نفسه.

ج ـ تفرح الصين للحرب على جورجيا، لكنها تخاف منها أيضا. تفرح، لأن روسيا ارست نمطا جديدا من العلاقات الدوليّة، الأمر الذي قد يتيح لها لاحقا التصرّف بهذه الطريقة مع تايوان ـ مع الفوارق الكبيرة في الظروف، لأن تايوان دولة قويّة. تخاف الصين من الظاهرة الجديدة ايضا، لأنها قد تشجّع تايوان على الاستقلال، او التبيت، او تركستان الغربيّة ـ جيانغ جينغ، وهذه امور تعتبر من الخطوط الحمر في العقل الصيني الأمنيّ.

د ـ وأخيرا وليس آخرا، ولأن الصين اصبحت مستوردة للطاقة، فهي بدأت تنافس روسيا على نفط آسيا الوسط وبحر قزوين. إذاً الاجندتان الروسيّة والصينيّة هما اليوم متقاطعتان، لكن المستقبل قد يحمل الكثير من الصراعات، اللهمّ إلا إذا وعدت روسيا الصين بتزويدها الطاقة، لكن هذا الأمر ايضا سوف يضع الأمن القومي الصيني تحت رحمة القرار الروسيّ.

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي